طمرت الحكومة في 28 شباط الفائت سلسلة الرتب والرواتب تحت أطنان من ليرات "التقديمات"، التي "لا تسمن ولا تغني عن جوع". إذ لا شبيه للمساعدات الاجتماعية التي دأبت السلطة على إعطائها للموظفين والمتقاعدين من خارج أساس الراتب منذ بدء الانهيار، إلّا تعبئة المياه بسلّة القش. فمشكلة الرواتب التسعة المعطاة للموظفين الفاعلين، وبدل الحضور المحدّد بما بين 8 و 16 صفيحة بنزين، ومكافأة المثابرة المقيّمة بين 15 و25 مليون ليرة، لا تقتصر على عدم تشكيلها أكثر 50 في المئة من الراتب الأساسي، إنّما تُعطى من خارج الراتب ولا تُحتسب ضمن تعويضات نهاية الخدمة. أمّا بالنّسبة إلى المتقاعدين فلا تشكّل كلّ التقديمات أكثر من 15 في المئة ممّا كانوا يتقاضونه قبل العام 2019.

كان يفترض بالحكومة أن تقدّم مع بداية حزيران الجاري رؤيتها لسلسلة الرتب والرواتب التي تنوي اعتمادها، وهذا ما لم يحصل حتّى الساعة. "أكثر من ذلك ليس هنالك أيّ مؤشرات إلى بدء الحكومة دراسة جدّية لإصلاح رواتب القطاع العام"، بحسب مصادر متابعة. "وهي دراسة لا تقتصر على مقارنة المداخيل بنسب التضخّم المحقّقة فحسب، إنّما تتطلّب أيضاً البحث جدّياً في إعادة هيكلة القطاع العام. مع كلّ ما يرتبط بهذه العملية من التخلّص من الإدارات الخامدة، وتحديد النواقص والاتفاق على "التوصيف الوظيفي الجديد"، وتنقية المؤسسات العامّة من الشوائب، وتحقيق العدالة بين الموظفين.

الأسباب الحقيقية التي تحول دون إقرار سلسلة رتب ورواتب جديدة

مجموعة أسباب فنّية وسياسية ومالية تقف وراء استعصاء وضع سلسلة رتب ورواتب جديدة وعصرية للقطاع العام. فمن الناحية الفنّية، يصرّ مجلس الخدمة المدنية على عدم إمكان وضع سلسلة رتب ورواتب حقيقية للقطاع العام، قبل إنجاز ما يُعرف بـ "التوصيف الوظيفي". ويقصد بالمصطلح الأخير، تحديد المهام والمسؤوليات والمهارات والمؤهلات المطلوبة، لشغل وأداء مهام وظيفة في فئة وظيفية معينة، وما تتطلبه من كفاءة لشغلها، كي يتم تحديد الدرجة المالية المناسبة لها في سلم الدرجات مع غيرها من الوظائف المماثلة لنفس الدرجة. إلّا أنّ التحجّج بهذا العائق غير مبرّر بحسب الرئيسة السابقة لرابطة موظّفي الإدارة العامّة نوال نصر لأربعة أسباب رئيسية:

- الأول، تشهر السلطة هذه الذريعة كلما أرادت التنصل من المطالب. وقد صرف على مشاريع "التوصيف الوظيفي" منذ التسعينيات مبالغ طائلة عبر تشكيل اللجان وإعداد الدراسات وتقديم الرؤى والاقتراحات. وتعود جذور الكثير من الدراسات إلى أيام مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية.

- الثاني، يصحّ التذرع بـ "التوصيف الوظيفي" في حالات البحث عن إعطاء زيادات على الرواتب والأجور، وليس إرجاع ما سُلب منها من خلال انهيار القيمة الشرائية للعملة. فالموظفون، اليوم، لا يطالبون بزيادة على الرواتب إنّما بإعادتها إلى ما كانت عليه قبل العام 2020، وهذا لا يتطلب بحثاً معمّقاً في التوصيف الوظيفي.

- الثالث، التوصيف الوظيفي معتمد اساساً في القطاع العام، ويمكن ان نستدل عليه بسهولة من خلال الدرجات الإضافية على رواتب بعض شرائح الموظفين من أطباء ومهندسين وفنيي معلوماتية، او المراقبين والمفتشين ومدققي الحسابات في اجهزة الرقابة، وتعويض الانقطاع الذي خصص لهؤلاء، وفنيي الطيران المدني، وآخرين. حتى هذه التصنيفات لبعض الوظائف عملت الحكومات المتعاقبة والمجلس النيابي منذ التسعينات على الغائها تدريجيا وذلك عندما الغي بدل الانقطاع لأجهزة الرقابة (على سبيل المثال..) وقلصت الدرجات للعديد من الوظائف الفنية. ولن ننس التصنيف الذي تحاول الحكومة اليوم تكريسه بين اصحاب الوظائف المتماثلة، وفقا للوزارة التي يشغلونها.

- الرابع، استحالة انتظار الموظّفين، عاملين ومتقاعدين عقوداً أخرى لتوصيف وتصنيف جديدين للوظائف، لاستعادة رواتبهم وحقوقهم كافة، التي لا تكفي أصلاً للحدّ الأدنى من العيش الكريم في ظل ارتفاع التكاليف المعيشية.

وعن إصرار الدولة على اختلاق الذرائع لعدم إعادة الحقوق الأساسية إلى الموظفين، تقول نصر إنّ "كلّ ما يجري يؤكّد أنّ السلطة لا تكترث لإعادة الحقوق إلى الموظفين كي يستمروا في الحياة. هم في نظرها آلات تعمل، يكفي تزويدها ما يلزمها من مواد تشغيل. فيُعطى الموظف ما يكفيه للحضور إلى العمل، والمتقاعد ما يكفيه ليسكت عن الغبن اللاحق به. وهذا يتناقض مع مفهوم الوظيفة العامة وأهمّية الموظف في النهوض بالإدارة العامّة التي يبدو أنّها خارج دائرة اهتمام المسؤولين في المدى المنظور.

مالياً

من الناحية المالية، يُتوقع أن تفوق الكلفة المالية لأيّ سلسلة رتب ورواتب جديدة، ما يُدفع حالياً كـ "تقديمات" عشوائية. فعلى الرغم من كون الانتقال إلى سلسلة "نظيفة" يَفترض أن يكون مسبوقاً بإصلاح هيكلي للقطاع العام، لكنه سيكلّف أضعافاً مضاعفة نتيجة الزيادات التي ستلحق برواتب الموظفين والمتقاعدين وتعويضات نهاية الخدمة وبقية التقديمات الصحّية والاجتماعية. فمن حيث قيمة الرواتب لا يزال الموظّفون يتقاضون 45 في المئة من قيمة رواتبهم قبل الانهيار، والأساتذة الجامعيون 65 في المئة، وأساتذة التعليم الرسمي 40 في المئة. فيما تعويضات الجميع لا تزال تحتسب على أساس 15 في المئة ممّا كانت عليه قبل الانهيار. وقد ناهزت كلفة الزيادة المقرّة أخيراً 3 آلاف مليار ليرة شهرياً، ورفعت كلفة الرواتب والأجور في القطاع العام إلى نحو 2.2 مليار دولار، تشكّل حوالى ثلثي حجم موازنة 2024 المقدّرة بنحو 3.2 مليار دولار. في المقابل، فإنّ ما تجنيه الدولة من ضرائب ورسوم يناهز 421 ألف مليار ليرة (تعادل 4.77 مليارات دولار بحسب ما أظهرت موازنة مصرف لبنان نصف الشهرية) لا يمكن استعمالها أو الانفاق منها. ذلك أنّ كلّ إنفاق بالليرة سيتحوّل طلباً على الدولار، وهذا ما يؤدي إلى ارتفاعه وتقويض كلّ السياسة التي يتبعها المركزي للمحافظة على سعر صرف مستقرّ عند 89500 ليرة.

سياسياً

أخيراً، من الناحية السياسية، فإنّ أيّ اصلاح للقطاع العام على قواعد واضحة وشفافة تمهيداً لإعطاء سلسلة رتب ورواتب عادلة، سيبعد السياسيين عن جنّة القطاع العام التي لطالما استفادوا منها من خلال التوظيف لتأمين "تجديدة البيعة" لهم في الانتخابات.

السلسة يجب أن تبصر النور تلقائياً

مختلف العوامل هذه أتت كـ "شحمة على فطيرة" الحكومة "الراغبة في عدم إقرار سلسلة جديدة"، بحسب عضو مجلس إدارة رابطة موظفي الإدارة العامة إبراهيم نحال. "وذلك نزولاً عند إملاءات البنك وصندوق النقد الدوليين والدول المانحة، ورغبة الحكومة نفسها في عدم وجود قطاع عام قوي وقادر". وبحسب نحال، فإنّ "إقرار سلسلة جديدة يمكن أن يتم في منتهى السلاسة وبعيداً عن كلّ التعقيدات. تُدعى الهيئات الإدارية لروابط موظفي القطاع العام إلى اجتماع مع لجان الخبراء (لجنة المؤشر، المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، مجلس الخدمة المدنية، الإحصاء المركزي، مراكز الأبحاث المتخصصة... ) وتوضع المؤشّرات الأساسية كالتضخّم وغلاء المعيشة... وتعدّ سلسلة تراعي ظروف موظفي القطاع العام. وهذا يجب أن يحصل بشكل تلقائي وعادل تبعاً لسلّم متحرّك للأجور كيلا نضطر إلى إعداد سلسلة أخرى بين حين وحين. ولكن هذا المنطق يصطدم بحسب نحال بـ"عدم رغبة الطبقة السياسية في إنصاف الموظفين لكي تبقى متحكّمة بالموظفين، بالدفاع عنهم من جهة، وإعطائهم "رشى" وظيفية من الجهة الأخرى".

سبب آخر تضيفه نوال نصر إلى عدم الرغبة في إقرار سلسلة رتب ورواتب جديدة، وهو "أنّها تستطيع"، بكل بساطة. إلّا أنّ هذا لا يبني قطاعاً عاماً مستقلًّا وقادراً على رفد الاقتصاد بما يحتاج إليه، إنّما يبقيه مرتهناً وضعيفاً ويشكّل عبئاً على مالية الدولة بدلاً من أن يكون رافداً أساسياً لها.