يستهلك سكّان الأرض يومياً قرابة 3 مليارات كوب من القهوة، التي هي من أكثر المشروبات استهلاكاً في العالم. ويعمل ما يناهز 10 ملايين شخص في مختلف فروع صناعة القهوة من الإنتاج إلى التحميص إلى تقديم المشروب في المقاهي. ويعيش أكثر من 120 مليوناً عبر العالم على مداخيل قطاع القهوة بمختلف فروعه، ويؤمّن 25 مليون مزارع حول العالم، 80 في المئة من الإنتاج العالمي من القهوة. 

وتنتج القهوة في أكثر من 50 بلداً، فيما تهيمن أميركا الجنوبية وآسيا على الإنتاج العالمي، وتستحوذ أوروبا على القسط الأوفر من الاستهلاك العالمي. وبينما تتصدّر البرازيل دول العالم المنتجة والمصدّرة للقهوة، تتصدّر فنلندا قائمة أكثر شعوب العالم استهلاكاً لها من حيث الاستهلاك الفردي، والولايات المتحدة من حيث الاستهلاك الكلّي. 

أسباب أزمة البن 

ويعيش عالم القهوة أخيراً أزمةً حقيقية تهدّد إمدادات هذه السلعة الأساسية لملايين الأشخاص حول العالم. ومن أهمّ مسبّبات أزمة البنّ حول العالم، التغيّرات المناخيّة، التي تؤثّر بشكل سلبي على نموّ أشجار البن وإنتاجيتها. فارتفاع درجات الحرارة والجفاف يؤدّيان إلى موت الأشجار ونقص المحاصيل. وتُهدّد العديد من الأمراض والآفات أشجار البن، مثل مرض الصدأ وديدان الأوراق، وهذا ما يُقلّل من الإنتاج ويُزيد من تكاليف الزراعة. كما يُؤدّي ازدياد عدد السكان إلى ارتفاع الطلب على البن، بينما تواجه الإمدادات صعوبات في مواكبة هذا النمو. وتُؤثّر الأزمات السياسية والاقتصادية في الدول المنتجة للبنّ على استقرار الإنتاج والتجارة، وهذا ما يُؤدّي إلى ارتفاع الأسعار ونقص المعروض. 

وهو ما أدّى إلى ارتفاع أسعار البن، إذ تترقّب السوق العالمية هذا الارتفاع بنسبة 25 في المئة في أعلى مستوى لها خلال الـ45 عاماً الماضية. وقد أثّر على موازنات المستهلكين، خاصةً في الدول ذات الدخل المنخفض. كما يُواجه بعض المستهلكين صعوبة في الحصول على قهوتهم المُفضّلة، خاصةً أنواع البن النادرة أو العالية الجودة. وتساهم الأزمة في انخفاض دخل مزارعي البن، مهددةً سبل عيشهم واستقرار المجتمعات المحلية في الدول المنتجة. 

نسبة استهلاك القهوة في لبنان 


أمّا في لبنان، فيشرب حوالى 80 في المئة من اللبنانيين البالغين القهوة بانتظام. وهي تُعدّ من أكثر المشروبات شعبية في البلاد، عدا أنها جزء أساسي من الثقافة اللبنانية. ولا شكّ في أنّ أزمة البنّ العالمية سيكون لها انعكاسات على أسعار البن في لبنان، وهو ما شرحه لـ"الصفا نيوز" عضو جمعية الصناعيين، مالك مؤسسة "بن أبي نصر"، فراس أبي نصر: "انعكاس أزمة البنّ العالمية على لبنان، سيظهر ارتفاعاً في الأسعار نتيجة نقص المحاصيل بعد أن ضُربت المواسم بفعل التغيّر المناخي وجائحة كورونا، مقابل ارتفاع الطلب، الذي يحرّكه زيادة عدد سكان العالم ومستهلكي القهوة من جهة، وتوجّه الاتحاد الأوروبي إلى تخزين كمّيّات كبيرة من البن من جهة أخرى، وهذا ما يرفع الطلب في الأسواق". 
وعن مسألة تخزين البنّ في أوروبا، أوضح أبي نصر: "قانون "استعادة الطبيعة"، الذي اعتمده الاتحاد الأوروبي، والذي يرمي إلى معالجة تغيّر المناخ والحفاظ على التنوع البيولوجي، من المفترض أن يدخل حيّز التنفيذ في 1-1-2025 ويمنع إدخال أيّ منتج زراعي غير مُطابق لمعايير حماية البيئة التي وضعتها أوروبا، وهو ما دفع شركات أوروبية إلى تخزين كميّات ضخمة من البن، فساهم ذلك في رفع الطلب ومعه الأسعار. بمعزل عن هذا القانون، تأتي أزمة الشحن الدولية، فترفع بدورها أسعار الشحن نتيجة رفع شركات التأمين بدل كلفة التأمين، وهو ما انعكس تلقائياً على أسعار البنّ". 

ارتفاع أسعار البنّ قرابة الـ50 في المئة 

وأشار أبي نصر إلى أنّ "محصول البنّ في كلّ من فييتنام والهند، تراجع بنسبة 4 في المئة عن العام الماضي. فيما لا تستطيع البرازيل تلبية معظم حاجات السوق العالمية لتغطية النقص الحاصل. وتعتبر هذه الدول الثلاث من أكبر مصدّري البن حول العالم". 

"وارتفعت معظم أسعار البنّ في أنحاء العالم بنسبة 40 في المئة في العام 2024 مقارنة بالعام الماضي"، بحسب أبي نصر، "ويستورد لبنان أغلب بنّه من البرازيل، وكان قد ارتفع طن البن البرازيلي من 3 آلاف دولار في العام 2023وإلى 4 آلاف و500 دولار في العام 2024. أمّا طنّ البن الفييتنامي فارتفع سعره من 3 آلاف دولار في العام 2023 وراوح بين الـ 5 والـ 6 آلاف دولار في العام 2024، في حال توفّره".  

وعن كمّيّة البنّ التي يستهلكها لبنان، أجاب "يستهلك كل لبناني قرابة الـ 5 أو الـ 6 كيلوغرامات من البن في السنة. وطبعاً ارتفعت كمية استهلاكه في لبنان مع ارتفاع عدد الأجانب".  

حلول اللبنانيين 

في المقابل، يلجأ بعض اللبنانيين إلى حلول عمليّة للتأقلم مع أزمة البن، وارتفاع سعره، وعدم حرمان أنفسهم منه. ففي دردشة لـ "الصفا نيوز" مع بعض المواطنين، تبيّن أنّ قسماً منهم يضيف المياه إلى الثُّفل، ويعيد غلي القهوة ويشربها، فيما يجفف قسم آخر الثّفل، ويعاود استخدامه، أو يختار أصنافاً من البنّ زهيدة الثمن. أمّا القسم الثالث، ففضّل الاستغناء عن القهوة وأخذ يشرب النسكافيه، الذي لا يستخدمه كلّه، بل يقسّمه كوبين، ويشربه على دفعتين. 

على مقلب آخر، تشجع أزمة البنّ، وارتفاع سعر السلعة أصحاب المحالّ على اللجوء إلى أساليب الغشّ في صناعة القهوة، فيخلط بعض هؤلاء البن الجديد بثفل البنّ القديم، لتقليص كلفة الإنتاج، وتحقيق المزيد من الأرباح، وعدم خسارة الزبائن نتيجة رفع السعر. فيما يقدم قسم آخر القهوة مستعملاً  البنّ القديم، أو بقايا الثفل من دون خلطها بمواد جديدة، ويرفع الأسعار، غير آبه بنوعية السلعة التي يقدمها. وهو ما يؤكّده عدد من أصحاب مصالح "الأكبرس" الممتدة على طول الطرقات العامّة في لبنان. وهذا ما يضرب ما يؤثر سلباً في مذاق القهوة، الذي لم يعد يشبه المذاق القديم قبل الأزمة.  

حلول علمية وعملية
في إطار متصل، يقول بعض الباحثين للـ"الصفا نيوز" إنّ "لأزمة البنّ العالمية، الكثير من الحلول، أبرزها الاستثمار في البحوث الزراعية عبر تطوير أصناف جديدة من أشجار البن أكثر مقاومة للتغيّرات المناخية والأمراض والآفات. كما يجب دعم المزارعين من خلال تقديم المساعدات المالية والتكنولوجية لتحسين ممارساتهم الزراعية وزيادة الإنتاجية. فضلاً عن تشجيع الاستهلاك المستدام لتقليل الإهدار وزيادة الوعي بأهمية الاستهلاك المسؤول للبن. وأخيراً، البحث عن بدائل مثل زراعة أنواع أخرى من المحاصيل التي تُقاوم تغيرات المناخ بشكلٍ أفضل". 

ختاماً، إنّ أزمة البنّ العالمية تُمثّل تحدّياً كبيراً يتطلّب حلولاً جماعية على المستوى الدولي من خلال التعاون بين الحكومات والمؤسسات الدولية والقطاع الخاص والمزارعين، لضمان استدامة إنتاج البن وتوفيره بأسعار معقولة للأجيال المقبلة.، كما غيره من المزروعات والمحاصيل المهددة بفعل تغيّر المناخ والجفاف وحتى أزمات التوريد والشحن نتيجة التهديدات الأمنية للممرات المائية في أنحاء العالم.