يُخطئ من يظنّ أنّ كلفة الحصول على الكهرباء في لبنان مقتصرة على فاتورتي "الدولة" و"الاشتراك" الباهظتين. فهناك فاتورة التلوّث غير المحسوبة، الناتجة من انتشار آلاف المولّدات بدواخينها السوداء، ولا سيما في المدن المكتظّة. وإذا ما جمعنا ما ندفعه راهناً كمواطنين من فواتير، وأضفنا إليه كلفة الفاتورة الصحّية العامّة المجتمعية، لمعالجة الأمراض التي تسبّبها المولّدات، وفي مقدّمها السرطان، لوجدنا أنّ السعر الحقيقي للكيلوواط الذي نستهلكه ليس 27 سنتاً كما تسعّره مؤسسة كهرباء لبنان، ولا يراوح بين 50 و60 سنتاً كما تفرضه المولدات الخاصّة، إنّما أكثر من ذلك بأضعاف مضاعفة. 

مشكلة الكهرباء المزمنة فرضت وجود مولّد خاص في كلّ مبنى أو حيّ سكنيّ. فانتقل التلوث المركزي الذي تنفثه دواخين المعامل الأساسية التي تعمل بمعظمها على الوقود غير النظيف، إلى تلوّث لا مركزي ملاصق لأماكن سكننا وعملنا وتنزّهنا. وأضيف تلوّث المولّدات الخاصّة إلى عشرات المصادر الملوّثة الأخرى كالسيارات المنزوع منها "ديبو البيئة" Catalytic Converter، والدراجات والباصات، لتتحوّل مدننا وقرانا إلى بؤر غير صحّية تفيض نسب التلوّث فيها عن مثيلاتها العالمية بأشواط. فما العمل؟

معالجة تلوّث المولّدات الخاصة

تتوزّع الحلول لهذه المشكلة المكلفة اقتصادياً بين آنية ومستدامة، بحسب ما بيّنت دراسات الخبراء المشاركين في مؤتمر "الطريق إلى مدينة خضراء: نقاش حول تلوّث الهواء الناتج من المولّدات"، الذي نظّمه الحزب التقدّمي الاشتراكي في فندق الريفييرا. وتبدأ الحلول بـ "تقدّم أصحاب المولّدات الخاصّة من البلدية للحصول على رخصة تركيز مولّد داخل عقاراتهم"، يقول رئيس مصلحة "المؤسسات المصنّفة" في بلدية بيروت الدكتور باسم العويني. "خصوصاً أنّ هناك 28 شرطاً تفرضها بلدية بيروت لإعطاء رخصة مولّد، تتعلّق بشكل أساسي بتطبيق معايير محدّدة من وزارة البيئة تتصل بالسلامة العامّة وحماية البيئة وعدم الإزعاج". ويعتبر الترخيص ملزماً للمولّدات الخاصّة، وليس لتلك المخصّصة لبيع الكهرباء (مولّدات الأحياء) التي لا يمكن ترخيصها "لا من قريب ولا من بعيد"، بحسب العويني. 

أخيراً، صدر تعميم من وزير البيئة، تعمّم على وزارة الداخلية، وأحاله المحافظ إلى بلدية بيروت. ينصّ التعميم على إلزامية وضع فلاتر (diesel particulate filter) على دواخين المولّدات، التي تزيد قدرتها على 250 kva للحدّ من التلوّث الكبير الذي تسببه. مهلة الستة أشهر التي أعطيت لتطبيق القرار، انقضت. وبدأت البلدية، بالتنسيق مع أمن الدولة، جولات على المؤسسات الكبيرة كالمستشفيات والمدارس والمراكز التجارية، للتأكّد من تركيب الفلاتر، لتتبعها لاحقاً مراقبة مولّدات الاشتراكات في الأحياء. "إلّا أنّ هذه الخطوة، على أهمّيتها، لا يتم الالتزام بها على مستوى واسع كما أظهرت جولات المراقبة"، بحسب العويني. "مع العلم أنّ المؤسسات الكبيرة تمتلك القدرة المادية. وستعثر على حجة جديدة لأصحاب المولّدات الخاصّة لرفع تعرفة الاشتراكات والخدمات أكثر فأكثر. ذلك أنّ الفلتر الواحد يكلّف 28 ألف دولار". 

جمع المولّدات في شركة واحدة

هذا الحلّ على أهمّيته يبقى "ترقيعي" ومعرّضاً للخلل، حتّى لو سلّمنا جدلاً بالتزام أصحاب المولّدات به بنسبة 100 في المئة. فمن يضمن تجديد هذا الفلتر بعد انقضاء صلاحيته؟ وهل تبقى الأمور تدار بـ "السوط" البوليسي، في ظلّ إظهار أصحاب المصالح ميلاً فطرياً للتهرّب من تطبيق القوانين من جهة، وعدم فعالية الإجراءات من جهة أخرى لأسباب سياسية ومناطقية وعشائرية؟ "فالمشكلة الأساسية التي نواجهها في مختلف الميادين تتمثّل بشكل أساس في الآليات التطبيقية"، يقول الباحث في السياسات العامّة طارق ذبيان. "من هنا يجب وضع إطار يضمن عدم انبعاث التلوّث من المولّدات الخاصة. وذلك مع تحوّلها إلى أمر واقع لا مفرّ منه في ظلّ عجز مؤسسة كهرباء لبنان، من دون أن نؤثّر على مصالح المواطنين". وعليه، يقترح ذبيان "إنشاء شركة عامة بموجب قانون، تتملّك كل مولّد تفوق قدرته 150 kva، وينال أصحاب المولّدات سندات صادرة عن الشركة تحفظ حقوق أصحاب المولّدات إلى 3 سنوات، (حصة من استثمار) وتصبح الشركة مسؤولة عن إدارة المولّدات". وتؤمّن هذه الآلية: 

- إبعاد المولّدات عن الأحياء وأماكن السكن المقدّر عددها بـ 8000 مولّد. وجمعها في أماكن محدودة ومعدودة. 

- فرض الفلاتر المناسبة، والتي تكلّف، بحسب الدراسات، 10 آلاف دولار، كلّ ثلاثة أشهر. 

- وقف الفوضى في هذا القطاع الذي تحوّل إلى ما يشبه الاحتكار. 

- تقليص عدد المولّدات بشكل كبير من أجل تأمين كمية الطاقة نفسها التي تحتاج إليها العاصمة بيروت. وهذا ما يخفّف التلوث تلقائياً ويحقّق منفعة الجميع. ويزيد عوائد الدولة. 

انتاج الطاقة من مصادر نظيفة بالتعاون بين البلديات والقطاع الخاص 

الحلّ، على أهمّيته، لا يلغي الدور الكبير للمولّدات، بل يشرّع بقاءها. على الرّغم من أنّ الحل المستدام الذي لا يتوافق مع حماية البيئة فحسب، بل يعتبر الاتجاه العالمي الأوحد المتفق عليه لوقف التلوّث هو تقليص دور انتاج الكهرباء من الوقود الأحفوري سواء كانت معامل مركزية أو مولّدات مبانٍ وأحياء، و"الانتقال إلى الطاقة المتجدّدة من خلال تعاون البلديات مع القطاع الخاص"، برأي رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق الدكتور باتريك مارديني. "فتتحوّل المولدات إلى جزء من الحلّ بدلاً من أن تبقى جزءاً من المشكلة. ويبعدنا هذا الحلّ عن الإدارة المركزية للقطاع، التي جُرّبت ولم تكن ناجحة في محطّات كثيرة".

تصل التغذية من كهرباء الدولة إلى حدود 6 في المئة في المناطق التي تلتزم تسديد الفواتير، وهي تنتج من الفيول أويل الأكثر تلويثاً، وتباع بسعر مرتفع يصل إلى 27 سنتاً للكيلوواط / ساعة، في حين أنّ كلفة الإنتاج تبقى أكبر بسبب الإهدار على الشبكة وتقادم المعامل. وبالتالي، فإنّ "الكهرباء محكوم عليها بالعجز، حتّى مع رفع التعرفة إلى الحدّ الأقصى"، من وجهة نظر مارديني. "وسيرتدّ هذا الواقع عاجلاً أم آجلاً بشكل سلبي على الاقتصاد. خصوصاً أنّ تمويل العجز سيتمّ من الحكومة التي "تستقرض" الدولارات من مصرف لبنان ولا تعيدها. وكلّما تراجع احتياطي العملات الأجنبية زاد الضغط على سعر الصرف، ومن ثم التهديد بارتفاعه. ما يرفع معه التضخّم، ويفقد القدرة الشرائية للمداخيل... فنعود إلى الدوّامة نفسها التي أهدرت حوالى 50 مليار دولار خلال السنوات الماضية. كما تضعف تكلفة الكهرباء المرتفعة القدرة التنافسية للمؤسسات وترهق العائلات وتشكّل عبئاً على الاقتصاد". 

انطلاقاً من هذا الواقع، يرى مارديني أنّ الحل الأمثل هو "إنتاج الطاقة ونقلها وتوزيعها على صعيد البلديات واتحاداتها بالتعاون مع القطاع الخاص. الأمر الذي يخفّض الفاتورة إلى الحدّ الأدنى، ويؤمّن الكهرباء بشكل متواصل، ويقلّل معدّلات التلوّث نحو 60 في المئة. ويمكن مشاريع الطاقة الشمسية الاستفادة من وجود المولّد لنقل الكهرباء وتأمينها حين يتراجع الإشعاع الشمسي. وبهذه الطريقة يتراجع الاعتماد على مولد الديزل إلى 60 في المئة وينخفض التلوث بالنسبة نفسها وتتقلّص الكلفة على المشتركين". مع العلم أنّ كلفة هذا النوع من المشاريع متدنية جداً، ويمكن تمويلها بالتقسيط على مدار السنوات. وأعطى مارديني تطبيقاً ناجحاً لمثل هذا الحل، طبّقته بلدية تولا في قضاء زغرتا، وأثبت فعاليته ونجاحه بشكل كبير. إذ تأمّنت الكهرباء من مزرعة لإنتاج الطاقة بالتعاون مع المولّد بمتوسط 10 ساعات يومياً على مدار العام، بسعر لا يتجاوز 7 سنتات للكيلوواط، لـ 120 منزلاً، بكلفة إجمالية للمشروع بلغت 120 ألف دولار". وبحسب مارديني، فإنّ "إنشاء معامل مماثلة يكلّف الوحدة السكنية 8 دولارات في الشهر لمدة 10 سنوات، لاسترداد كلفة الاستثمار، أو 16 دولاراً لمدة 5 سنوات، أو 27 دولاراً لمدة 3 سنوات. وهو استثمار رابح لجميع الأطراف، من البلدية مروراً بالقطاع خاص، وصولاً إلى المستهلكين. ولتعميم هذا الحلّ وتوسيعه، طالب مارديني النواب باستيلاد لوبي من أجل طرح اقتراح قانون من مادة واحدة نصُها هو الآتي: "إلى حين تعيين أعضاء الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء، تُعطى البلديات و/ أو اتحاد البلديات تراخيص انتاج الكهرباء ونقلها وتوزيعها، كلّ بحسب نطاقه.