تولي المؤشّرات الاقتصادية المحلّية الكلّية، ميزان المدفوعات، أهمّية استثنائية. وغالباً ما تتمّ مقاربته في ظلّ الانهيار من زاوية تأثيره على سعر صرف الليرة. ويمكن اختصار المعادلة بالتالي: الفائض في ميزان المدفوعات، يعني أنّ ما يدخل من عملات صعبة إلى الاقتصاد أكثر ممّا يخرج منه، والعجز، هو العكس. ما يعني في حالة تحقيق الفائض، تراجع الطلب على شراء الدولار بالليرات، وبالتالي تأمين الاستقرار النقدي، تماشياً مع قاعدة العرض والطلب.

منذ العام 2023، بدأ ميزان المدفوعات يتحوّل في لبنان إلى إيجابي بحسب ما تظهر البيانات التي ينشرها مصرف لبنان. فسجل مع نهاية العام 2023 فائضاً بقيمة 2.24 مليار دولار، مقارنة بعجز قدره 3.2 مليار دولار في نهاية 2022. واستمرّ الفائض في الارتفاع في الفصل الأول من العام الجاري، ولو بنسب أقلّ من العام الماضي بكثير، مسجلاً فائضاً قدره 442.5 مليون دولار، وذلك مقارنةً بفائض قيمته مليار و174 مليون دولار للفترة نفسها من العام 2023.

ماهية ميزان المدفوعات وتأثيراته

بعيداً عن تعقيدات الأرقام وتقنيات الحسابات، ما يعنينا بالموضوع أمران أساسيان: الأول إن كان الفائض حقيقياً، بمعنى إن كانت كمّيات الدولارات التي تدخل الاقتصاد هي بالفعل أكبر من تلك التي تخرج منه. والثاني، مرونة سعر الصرف مع ميزان المدفوعات. بعبارات أخرى، هل استقرار الليرة الذي نشهده منذ آذار 2023 مرتبط حقاً بالفائض المحقّق بميزان المدفوعات؟

يتكوّن ميزان المدفوعات بحسب المستشار المالي الدكتور غسان شماس من ثلاث وزنات، هي:

- الحساب الجاري. (وهو يمثّل واردات الدولة وصادراتها من السلع والخدمات، والمدفوعات المقدّمة للمستثمرين الأجانب، والتحويلات مثل المساعدات الخارجية).

- فروقات رأس المال في المصرف المركزي.

- احتياطي مصرف لبنان من العملات الأجنبية.

بالنسبة إلى الوزنة الأولى، أي الحساب الجاري، فقد سجل في العام 2023، بحسب أرقام مصرف لبنان، عجزاً بقيمة 5642.82 مليون دولار (5.7- مليار دولار تقريباً). ونتج هذا العجز بشكل أساسي من الميزان التجاري (الفرق بين الصادرات والواردات) بقيمة (-12.7) مليار دولار. وتراجع الاستثمارات بقيمة (-2.4) مليار دولار. وتسجيل رقم سلبي بالفارق في التحويلات المالية بقيمة 78 مليون دولار. وذلك مقارنةً بما دخل إلى البلد من عوائد التصدير وتحويلات المغتربين وعوائد السياحة، والمساعدات الأجنبية والتي لا تتجاوز 14 مليار دولار حدّاً أقصى، موزّعة نظرياً على التوالي: 3.5 مليار دولار، 6.7 مليار دولار، ومليار دولار، و1.3 مليار دولار. فهل ما صنع الفرق وحوّل العجز التاريخي والمزمن في ميزان المدفوعات بشكل متواصل منذ العام 2011 تقريباً هو فروقات رأس المال واحتياطيات مصرف لبنان؟

مبرّرات الفائض المحقّق!

يعزو شماس هذا الفائض المحقق في العام الماضي ومطلع العام الحالي إلى أربعة أمور أساسية:

- الأول، "ناتج من عمليات محاسبية دفترية". إذ عندما خُفّض سعر صرف الليرة اللبنانية 60 ضعفاً من 1500 ليرة إلى 89500 ليرة تراجع صافي الأصول الأجنبية NFAs للبنوك التجارية. انعكس ذلك من خلال انخفاض كلّ التزامات القطاع المالي غير المقيم، وودائع العملاء غير المقيمين. وهذا لا يشكّل فرقاً كبيراً.

- الثاني، وهو الأهم، ارتفاع احتياطي مصرف لبنان بالعملات الأجنبية، وارتفاع قيمة الذهب (أظهرت الموازنة العمومية لمصرف لبنان ارتفاع حساب الذهب، الذي يمثل حوالى 23 في المئة من إجمالي أصول المصرف إلى 21 ملياراً و670 مليون دولار حتى منتصف نيسان 2024. فيما ارتفعت بقية الأصول الاجنبية إلى 14 ملياراً و860 مليون دولار على أساس سنوي).

- الثالث، زيادة التحويلات المالية نتيجة الهجرة المستجدة، والتدفقات الناتجة من السياحة الداخلية مقارنةً بتراجع التحويلات نسبياً من لبنان، وخصوصاً من قبل اليد العاملة الأجنبية.

- الرابع، أصول المصارف التجارية في الخارج، وموجوداتها الناتجة من المؤونات في المصارف المراسلة. وفقدانها من الجهة الأخرى وجود حساب مدين.

فائض ميزان المدفوعات يسهم في استقرار سعر الصرف

من جهة أخرى، يبدو واضحاً أنّ التحسّن في ميزان المدفوعات يساعد مصرف لبنان على الاستمرار في سياسته "التدخّلية" للمحافظة على استقرار سعر صرف الليرة اللبنانية عند حدود 89500 ليرة. فهو من جهة يمتصّ فائض الليرات الموجودة في السوق مما يفيض من دولارات. وهذا ما يزيد عرض الدولار في السوق مقارنةً بالطلب. وبالفعل، استطاع المركزي خلال الفترة الأخيرة تخفيض الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية الموضوعة في التداول من نحو 90 تريليون ليرة إلى أقلّ من 60 تريليوناً. وقد أراح هذا التدبير الأسواق، وخفّف الضغط عن سعر الصرف وتوازياً على التضخم، واستطاع أن يحافظ على القدرة الشرائية للمداخيل.

ما يظهر جلياً هو أنّ الفائض المحقّق في ميزان المدفوعات "هشّ"، وغير مبّني على قواعد صلبة. وهو معرض للتحول إلى سلبيّ في أيّ لحظة في ظلّ العجز المزمن في الحساب الجاري، وتهديد نقص الاحتياطيات في مصرف لبنان. خصوصاً إذا لم تُثبّت سياسة المركزي المنتهجة بالتوقف عن طبع الليرة اللبنانية و"إقراض" الحكومة الدولار، بموجب قوانين صارمة. فالعجز المتوقع في الخزينة بسبب تجاهل الكثير من النفقات من جهة، والعودة إلى مراكمتها من جهة ثانية، وعدم كفاية الواردات المتأتية من رفع الضرائب، يهددان في أيّ لحظة بعودة مصرف لبنان عن قراره وتمويل الدولة بالليرات أو الدولارات. وهذا ما يقوّض كلّ النتائج الإيجابية المحقّقة.