أدباء المهجر... وإن لم يعد التوصيف يصح اليوم، من جبران خليل جبران إلى ميخائيل نعيمة إلى آخرين، ردموا هوّة سحيقة بين الغربة والوطن، وألَّفوا على صفحاتهم وطنًا حلوًا جعلونا نعيش فيه، اسمه الحنين.

كانوا يتسقَّطون أخبار بلادهم بالسراج والفتيلة... وتركوا لنا إرثًا غنيًّا، من مؤلفاتهم الغنية العميقة التي ما زلنا نحتفل بها إلى اليوم. فكيف لو عاشوا في زمن ثورة الاتصالات التي جعلت الكون كله قرية صغيرة؟

ما سبق ينطبق على الكاتبة الناشطة الثقافية إخلاص فرنسيس، ابنة علما الشعب الجنوبية، المتغربة في الولايات المتحدة الأميركية، منذ نحو عشرين عامًا، لكني لن أسميها أديبة مهجرية، وأقارِنها بمن سبقُوها. بل سأتوقف عند إرادة قوية في شخصيتها، جعلتها تتجاوز هموم الغربة والأمومة والعائلة الكبيرة، وتتوفَّر على الكتابة والنشر، وتستطيع، زمن جائحة الكورونا، أن تنهض بالمشهد الثقافي، لا على مستوى لبنان وحسب، وإنما أيضًا على مستوى العالم العربي.

جعلتها الجائحة، كمثل كثر في العالم، أسيرة غرفة. حولت تلك الغرفة منبرًا ثقافيًّا، أطلقت عليه اسم "الغرفة 19"، وقد عقدت، وما زالت تعقد، عبرها ندوات وأمسيات شعرية ومناقشات لموضوعات، من خلال منصة "زوم"، تجمع فيها أدباء ومثقفين ومريدين، من مختلف أصقاع الأرض، وقد يصل جمهور بعض اللقاءات إلى أكثر من 500 مشارك. حتى إنها نظمت مؤتمرًا في القاهرة عن التراث، شاركت فيها شخصيات ومنتديات وهيئات من مصر ودول عربية.

ثم أرفقت الغرفة، بمجلة فصلية حملت العنوان نفسه، سجَّلتها في مكتبة الكونغرس الأميركي، وبكتب نشرتها على اسم الغرفة، فوضعت اسمها هي، إخلاص فرنسيس، في مكان مهم متقدم، خولها المشاركة في مهرجانات ومعارض للكتاب، في القاهرة والشارقة وتونس وبعض الدول الأوروبية، وطبعًا في بيروت. ولم تمنعها كثرة أسفارها، وهي عاشقة سفر، من إصدار مجموعة مؤلفات تتنوع بين الشعر والقصة القصيرة والرواية والخواطر والشأن الديني.

حتى إذا شئت أن تطلق عليها صفة، قلت: إخلاص فرنسيس مؤسسة ثقافية في غرفة.

أصدرت حتى أمس القريب: "حين يزهر الورد"، و"أمضي في جنوني"، وهما كتابا خواطر شعرية، و"على مرمى قبلة"، و"العشق المقدس"، و"رغبات مهشَّمة"، و"ظل النعناع"، فضلًا عن كتاب "ذاكرة الضوء"، وهو عبارة عن حوار طويل مع الناقدة يمنى العيد ومجموعة دراسات ومقالات عنها، كلفتة تقدير وتكريم لها.

أما "رغبات مهشمة"، فرواية إخلاص الوحيدة. وأما كتاب "العشق المقدس"، فيتناول 20 شخصية من الكتاب المقدس، وأما "على مرمى قبلة"، و"ظل النعناع"، فمجموعة أقاصيص، ولا سيما الأخير الذي يعد ذاكرة تجوال الكاتبة في أماكن كثيرة زارتها، ودونت فيها مشاهداتها وانطباعاتها، من دون أن تتخلى عن خيالها الواسع وحرفيتها في الكتابة.

وأتوقف عند "ظل النعناع" الذي يجعلني أقول فيها إن إخلاص فرنسيس... أديبة الغربة، أديبة الوطن المقيم فيها بعيدًا.

كانت ترفأ جراح الغربة بالحبر النَّاضح بالحنين دومًا، وبالأدمع أحيانًا. فترى الوطن على الورق، أمامها، ينبسط أسطرًا. تفلفشه بأصابع قلقة. تقرأه بمقلتين مشغوفتين بمطارح الذكريات. تضمه إلى وحدتها، كما أم تحضن وليدًا.

نسجت إخلاص مع الوطن، ولو من بعيد، خيوط مودَّة وتعارف. وجرى اسمُها وحضورُها ونضالُها في مجال الكلمة، على ألسنةٍ، وفي منتدياتٍ ومعارض... إلى أن فاح ضوعُ نعناعها المشتول في كلِّ قلب، في كلِّ مجلس.

وأمسِ أمسِ، تظلَّلنا ذاك النعناع، بصدور مجموعتها "ظلُّ النعناع" عن دار "سائر المشرق" في بيروت، المدينة العاصمة التي عاشت فيها صباها وبنت عيلتها الجميلة السَّعيدة، بعد سنيِّ الولادة والطفولة والمراهقة والشَّباب، في علما الشعب الجنوبيَّة، قضاء صور، لتحملَها أجنحة الغربة، لاحقًا، إلى حيث استقرَّت، وما زالت، في سان دييغو الأميركيَّة.

إخلاص فرنسيس، في "ظل النعناع"، رتقت المسافة بين الوطن البعيد عنها، والوطن المقيم فيها، بعيدًا. ولا أرى الكتاب بين يديها، إلا أجمل ما أنجبت.

فلا أدري مَن يكتب مَن؟ أهي الَّتي تكتبُ الأقصوصة أم الأقصوصةُ هي الَّتي تكتبها؟

أعرف عنها ولعَها بالسَّفر. ليست الفضاءاتُ ولا الأمواجُ ما يغريها بامتطاءِ المسافاتِ إلى وجهةٍ ما أو محطة، إنَّما ذاك الصَّوتُ الدَّفينُ في داخلها، يصرخ بها أنِ ارتِقي جراحَ غربتِك عن وطن وأهل وأحبة، بخيطِ الكلماتِ وإبرةِ الحنين.

كأنِّي بإخلاص فرنسيس في سفرٍ دائمٍ، من داخلٍ فيها حزينٍ، ولو باسمًا، إلى داخلٍ تحاولُ أن تهديَ إليه الفرح بقصَّة قصيرةٍ تخبِّئها في "عبِّه"، لتنام.

"ظلُّ النَّعناع" سِفْرٌ من كتاب أسفارِ إِخلاص، تقرأُه فتعرف كم هي وحيدة، وكم هي ظلٌّ لوَحدتها، ولو ترامتْ من حولها مساكبُ النَّعناعِ والوجوه.