تتكشّف يوماً بعد آخر مساوئ إدارة الأزمة الاقتصادية اللبنانية، مؤكّدةً مزاعم الخبراء بأنّ معالجة الانهيار كانت أسوأ من الانهيار بذاته. صيف 2020، تلقّى المقترضون "هدية" من مصرف لبنان لم تكن لتخطر ببالهم، ولو خطرت لظنّوا أنّها "ضرب من المستحيل". فقد ألزم "المركزي" المصارف بقبول تسديد قروض التجزئة بالليرة على سعر الصرف الرسمي "البائد"، 1500 ليرة مقابل الدولار الواحد. هكذا وبـ "جرّة" تعميم، قد يكون القصد منه نبيلاً، جرت أكبر عملية "تحويل ثروة" من المودعين إلى المقترضين، وشكّلت عنصراً أساسياً في تداعي القطاع المصرفي.

يكشف تقرير جديد لفريق الأبحاث الاقتصادية في مصرف "بلوم للأعمال" BLOMINVEST BANK، أنّ محفظة القروض بالليرة والدولار تراجعت خلال الأعوام الثلاثة الأولى على الانهيار من 98.6 تريليون ليرة إلى 39.5 تريليون، تشكّل ما يقرب من 39.4 مليار دولار على سعر صرف 1500 ليرة. هذه القروض المأخوذة بنسبة 70 في المئة بالدولار، كانت تُسدّد على سعر الصرف الرسمي بناء على التعميم الوسيط 568 الصادر في آب 2020. في حين أنّ سعر الصرف الحقيقي كان يتدرّج صعوداً من متوسّط 6700 ليرة في الفترة الممتدة من أيلول 2019 إلى كانون الأول 2020، مروراً بـ 16820 ليرة من كانون الأول 2020 إلى كانون الأول 2021، وصولاً إلى 30315 ليرة من كانون الأول 2021 حتى كانون الأول 2022. وعليه، يُقدّر أن تكون هذ الآلية عبر جميع الفترات وجميع أنواع القروض، قد ولّدت فجوة بقيمة 33 مليار دولار. أمّا بشكل أكثر دقّة فإنّ الفجوة بالدولار تقدّر فعلياً بـ 23 مليار دولار، وذلك بعد عزل القروض المقدّمة بالدولار الأميركي، نظراً إلى أنّه بحلول أيلول 2019، كانت نسبة الدولرة للقروض 70 في المئة.

خسائر المصارف المفترضة من تسديد القروض

إذاً، يفترض التقرير أنّ هذه الفجوة متأتّية من مصدرين أساسيين:

الأول: تسديد قروض التجزئة (قروض الإسكان والقروض الاستهلاكية) بمبلغ 11.2 مليار دولار أميركي، نتجت بشكل أساسي من التسديد على سعر صرف 1500 ليرة.

الثاني: تسديد قروض الأعمال للمقيمين وبشكل أساسي منها قروض البناء البالغة 4.6 مليار دولار، وقروض الصناعة البالغة 3.3 مليار دولار أميركية وهذه كلها سُدّدت بالمجمل عن طريق شطب الودائع المقابلة بالدولار الأميركي لعملاء الشركات و/أو عن طريق قبول شيكات مخفّضة بالدولار الأميركي تمّ شراؤها لهذا الغرض.

وتأكيداً على عملية تسديد القروض من خلال "شيكات اللولار"، يلحظ التقرير أنّه في الفترة نفسها تراجع إجمالي ودائع المقيمين بالدولار الأميركي في المصارف بقيمة 17.6 مليار دولار، من 90.8 مليار دولار أميركي في أيلول 2019 إلى 73.2 مليار دولار أميركي في كانون الأول 2022. وقد توزّع هذا التراجع على أكثر من باب، منها سحب الودائع لتسديد القروض.

ووفقاً للأرقام سُحب:

- 1.9 مليار دولار من قبل العملاء، كتحويلات (انسانية) من تشرين الأول 2019 إلى نيسان 2020.

- 7.7 مليار دولار أميركي بسبب التعميم الرقم 151 اعتباراً من نيسان 2020.

- 640 مليون دولار أميركي بسبب التعميم الرقم 158 الذي بدأ في تموز 2021.

انطلاقاً من أن مجموع هذه المبالغ 10.2 مليار دولار أميركي، يفترض التقرير أنّ الودائع المتبقّية ومقدارها 7.4 مليار دولار أميركي من أصل 17.6 مليار، استُخدمت لشطب قروض الشركات. ونتيجة لذلك، يمكن تقدير صافي خسائر البنوك بـ 15.6 مليار دولار أميركي، أو الفرق بين إجمالي الخسائر البالغة 23 مليار دولار أميركي والودائع الملغاة البالغة 7.4 مليار دولار أميركي.

الخسارة كانت ستقع حتماً

في المقابل، يرى الخبير المصرفي ورئيس مجلس إدارة I&C Bank جان رياشي أنّ الخسارة الحقيقية من جراء تسديد القروض بعد الأزمة أتت من مصدرين فقط لا غير، هما:

- تسديد قروض التجزئة بالليرة بدلاً من الدولار (وهذا فرض على المصارف من قبل مصرف لبنان).

- قبول المصارف بتسديد القروض بالفرش دولار مع حسم على القيمة الإسمية. (كأن يقبل البنك مثلاً تسديد المودع 20 ألف دولار نقداً لحسم قرض بقيمة 35 ألف دولار). وهذه خسائر قبلت بها المصارف عن سابق تصوّر وتصميم على أساس أنّها ستُحاسب في ما بعد على نسب السيولة، وليس على الخسارات. وذلك قبل أن يصدر مصرف لبنان تعميماً يمنع فيه المصارف من المضي قدماً في هذه العملية.

أمّا في ما يتعلق بتسديد القروض بالشيك المصرفي فيقابلها تلقائياً انخفاض مواز بالودائع، خصوصاً إذا كان الشيك صادراً من المصرف الدائن نفسه. فتحسم من جهتي مطلوبات المصرف وموجوداته القيمة نفسها، ولا يتأثر البنك، ولا يتحمّل بالتالي، أيّ خسارة. أمّا إذا كان الشيك صادراً من مصرف مختلف عن ذلك الذي يراد تسديد القرض فيه، فيتحمّل الخسارة المصرف الثاني. وهذا ما دفع بالمصارف إلى رفض قبول الشيكات المصرفية الصادرة عن غيرها لتسديد القروض. مع العلم أن لا تأثير لهذه العملية على المصارف كقطاع مجمّع، أي على الموازنة المجمّعة للمصارف.

الخيار الذي اتخذه مصرف لبنان في آب 2020 كان يهدف من حيث الشكل إلى حماية محدودي الدخل، ممّن لم تزد مداخيلهم بالليرة في ظلّ انهيار العملة الوطنية خلال العامين 2020 و2021. إذ لم تبصر الزيادة الأولى على الأجور النور إلّا في 12 أيار 2022، حين أضيف إلى الحدّ الأدنى الرسميّ للأجر الشهري مليون و325 ألف ليرة ليصبح مليوني ليرة. ثمّ أُلحقت بها بعد نحو شهر زيادة بقيمة 600 ألف ليرة، فبات الحدّ الأدنى 2.6 مليون ليرة، يعادل 86 دولاراً بأسعار الصرف الرائجة آنذاك في السوق السوداء. وعليه، فإنّ ما كان يتقاضاه العامل في القطاعين العام والخاص في الأعوام 2020، 2021 و2022، لم يكن يكفي لتسديد جزء بسيط من قرضه. "وهو ما يدحض النظرية التي تقول إنّ تسديد القروض بغير قيمتها فاقم خسائر المصارف والمودعين"، برأي رياشي. "فهذه القروض لم تكن لتسدد أصلاً، ولتحوّل نصفها على الأقلّ إلى ديون معدومة. مع ما يعنيه ذلك من فوضى عارمة في القضاء والمحاكم نتيجة تنفيذ المصارف رهوناتها والحجز على المتخلّفين، خصوصاً بالنسبة إلى قروض العقارات والسيارات".

"وبالتالي، فإنّ قرار تسديد القروض، بحسب سعر الصرف الرسمي، لم يكن خطأ من حيث المبدأ"، يؤكّد رياشي، "إنّما كان يجب أن يترافق هذا القرار مع وضع قيود أكثر صرامة، وخصوصاً لسقوف القروض والمستفيدين من التسديد المدعوم. وكان من المفترض على مصرف لبنان أن يمنع المصارف من إجراء عمليات الحسم في بدايتها. وهذا ما لم يحصل وكانت نتيجته سيئة جداً على مختلف الصعد.