زار وفدٌ من صندوق النقد الدولي بيروت من 20 أيار الجاري إلى 23 منه "لمناقشة التطورات الاقتصادية الأخيرة والتقدّم المحرز في الإصلاحات الرئيسية". وفي نهاية الزيارة صدر بيان يُلخّص نتائج هذه الزيارة. ولا داعي إلى العودة إلى مضمون البيان الذي يُمكن قراءته على الرابط، يُمكن ذكر أهم النقاط التي وردت فيه:

1. لا تزال الأزمة الاقتصادية غير المعالجة تلقي بثقلها على سكان لبنان.

2. إنّ التداعيات السلبية الناجمة عن الصراع في غزّة وتزايد القتال على الحدود الجنوبية للبنان تؤدّي إلى تفاقم الوضع الاقتصادي الضعيف أساساً.

3. لقد تمّ إحراز بعض التقدّم في الإصلاحات النقدية والمالية منذ مداولات المادة الرابعة الأخيرة.

4. مع ذلك، فإنّ هذه التدابير السياسية لا ترقى إلى ما هو مطلوب لتمكين التعافي من الأزمة.

5. إنّ الموافقة في الوقت المناسب على موازنة 2024 خطوة أولى مهمّة، ولكن هناك حاجة إلى بذل جهود أقوى لتعزيز المالية العامة.

6. إنّ التقدّم المحرز في الإصلاحات الأساسية الأخرى، بما في ذلك الحوكمة والشفافية والمساءلة، لا يزال محدوداً.

7. لا يزال الصندوق ملتزماً دعم لبنان، ونتوقع إجراء مناقشات المادة الرابعة في أيلول المقبل لتقويم التطورات الاقتصادية الحاسمة والإصلاحات المالية.

قبل الغوص في الملاحظات على هذا البيان، يجب القول إنّه لا يُمكن التشكيك في كفاءة الفريق التقني لصندوق النقد الدولي ونزاهته، خصوصًا أنه مؤلّف من 150 جنسية من أهل الكفاية المرموقين. وبالتالي، نحن لا نُعلّق على التقرير التقني للصندوق، بل على البيان الصحافي الذي صدر، ويُمكن أن يحوي مُغالطات نظرًا إلى الاعتبارات التي يأخذها في الاعتبار بيان من هذا النوع.

يقول البيان في النقطة الثالثة "تمّ إحراز بعض التقدّم في الإصلاحات النقدية والمالية منذ مداولات المادّة الرابعة الأخيرة". ويستفيض في القول إنّ التدابير التي اتخذتها "وزارة المال ومصرف لبنان – بما في ذلك الإلغاء التدريجي للتمويل النقدي للموازنة، وإلغاء منصّة صيرفة والسياسة المالية المتشدّدة، والخطوات نحو توحيد أسعار الصرف – بشأن احتواء تدهور سعر الصرف، واستقرار العرض النقدي، وبدأت في الحد من الضغوط التضخمية".

هذا التصريح مُبهم شكلًا ومضمونًا. ويُمكن اعتباره تشجيعاً من قبل الصندوق للمسؤولين اللبنانيين ("فيتامين")، إلّا أنّه لا يعكس حقيقة الواقع المرّ. لم تُجرَ أيّة إصلاحات ماليّة باستثناء رفع الضرائب والرسوم التي تُصنّف في خانة الإصلاحات من قبل صندوق النقد الدولي. وعليه، عندما يُشيد صندوق النقد الدولي بالإصلاحات التي قامت بها وزارة المال، لا نعلم عن أيّة إصلاحات يتكلّم (باستثناء رفع الضرائب والرسوم)! هل الإصلاحات مقتصرة على دفع الضرائب والرسوم والفواتير نقدًا، وبالتالي إلغاء دور القطاع المصرفي؟ هل تكون الإصلاحات في أن تعمد مؤسسة كهرباء لبنان إلى جباية الفواتير بالدولار الأميركي مع جهلها المُطلق لمصدر هذه الدولارات؟ هل الإصلاحات في أن تكون رواتب القطاع العام نصف الموازنة بعدما كانت ثلثها قبل العام 2020؟

الليرة اللبنانية سُحبت من السوق واستُبدل بها الدولار الأميركي، وبالتالي لم تعد تخدم الاقتصاد اللبناني. فكيف يُمكن الحديث عن إصلاحات نقدية؟ هل التخلّي عن العملة الوطنية هو إصلاح؟ الليرة اللبنانية لم تعد تُصنّف عملة بل أصبحت سلعة لا أكثر ولا أقلّ. ولولا حاجة الدولة إلى التمويل وفرضها جباية الضرائب والرسوم والفواتير بالليرة اللبنانية نقدًا، لما استخدمها أحد.

وماذا نقول عن الاقتصاد النقدي؟ هل يرضى صندوق النقد عن الحجم الذي بلغه الكاش في الاقتصاد، مع ما يحمل ذلك من تداعيات قانونية وعقوبات مُحتملة على لبنان وعلى اقتصاده؟ لم تقم الحكومة بخطوة واحدة للجم اقتصاد الكاش، بل على العكس، راحت تتموّل من هذا الكاش بالعملة الصعبة، إذ تأخذ الضرائب بالليرة اللبنانية، التي تُحوّلها إلى مصرف لبنان الذي يشتري بها دولارات من السوق (غير معروفة المصدر) وتُعاود جباية الليرة اللبنانية من الضرائب والرسوم والفواتير وهكذا دواليك!

إذًا،فإنّ تراكم الاحتياطات الأجنبية ليس نتاج إصلاحات بل نتاج شراء الدولارات من السوق المحلّية مُمّولة من الضرائب بالليرة اللبنانية في ظلّ اقتصاد مُتعثّر.

كذلك يتحدّث صندوق النقد عن تقريب عجز الموازنة لعام 2023 من الصفر، متناسيًا أنّ تكلفة الفيول العراقي توازي الملياري دولار أميركي، وهي لا ترد في الموازنة، بل في موازنة المصرف المركزي. وهذا يعني أنّ الأخير لا يزال يُموّل الدولة اللبنانية.

وإذا كان وصف صندوق النقد الدولي لوضع المصارف والودائع دقيقاً، فإنّ المُعالجة التي يقترحها تصبّ في خانة شطب الودائع. والدليل ما ورد في البيان الصادر عن الصندوق: "إنّ معالجة خسائر المصارف مع حماية صغار المودعين إلى أقصى مدى ممكن، والحد من اللجوء إلى الموارد العامّة الشحيحة بطريقة موثوق بها ومجدية مالياً، أمر لا غنى عنه لوضع الركيزة للتعافي الاقتصادي". وهذا يعني بشكل صريح شطب قسم كبير من الدين العام المُمول من أموال المودعين، وليس ثمة مسّ بأصول الدوّلة حتّى بهدف الاستثمار.

أمّا في ما يخص الضرائب، فيقول الصندوق إنّه لا يزال هناك نقصٌ في الموارد المالية، وهو ما يوحي أنّ في ذلك دعوة إلى رفع الضرائب أكثر فأكثر. إلّا أنّ هذا الحلّ سيكون على حساب من يحترم القوانين لمصلحة من يخالفها، ولا يُصرّح بمداخيله كاملة. وعليه، كان من الأجدى أن تكون الدعوة واضحة وحثّ الحكومة على لجم اقتصاد الكاش.

أمّا في ما يخص الشفافية والحوكمة، فيجب معرفة أن أداة مصرف لبنان الأساسية لتنفيذ سياسته هي القطاع المصرفي، وهو غير مُستخدم في الاقتصاد. لذا عند أخذ مصرف لبنان خطوات لتعزيز الرقابة، لا نعلم بأيّة وسيلة سيُنفّذ هذه الخطوات، اللهم إلّا داخل المركزي. وللتذكير، صدر عن مصرف لبنان التعميم 166 الذي لم يطبّقه إلى الساعة إلّا مصرف واحد.

إن مفتاح الحلّ يبدأ قبل كلّ شيء باستقلالية القضاء وفصل الاقتصاد عن السياسة، عبر وضع هيئات ناظمة في كلّ القطاعات الاقتصادية. وإذا لم يحصل ذلك فعبثًا نتحدّث عن إصلاحات وخروج من الأزمة. الكلّ يعلم أنّ صراع القوى السياسية هو من أوصلنا إلى هنا.