التوقّف مليّاً عند مؤشّر الارتفاع المطّرد للفقر في لبنان، لا يُحَجّم بعدم قدرة نصف السكان على تأمين الكافي من الغذاء، إنّما يفرض طرح سؤالين محوريين: كيف يواجه الفقر؟ وما هي تداعياته المستقبلية؟

في أحدث تقاريره المستندة إلى دراسة استقصائية عن المحافظات الخمس الكبرى خلص البنك الدولي إلى أنّ معدل الفقر في لبنان "ارتفع أكثر من ثلاثة أضعاف خلال السنوات العشر الماضية، إلى 44 في المئة من السكّان. بعبارة أخرى، فإنّ شخصاً واحداً على الأقل من كلّ ثلاثة لبنانيين يصنّف بحسب البنك الدولي فقيراً. هذا الرّقم، على فظاعته، يعتبر ملطّفاً إذا ما أخذنا توزّعَ الفقر على المحافظات. ففي عكّار مثلاً يرتفع هذا الرقم إلى 70 في المئة إذ يعمل معظم السكّان في قطاعَي الزراعة والبناء. علاوة على ذلك، اتّسعت فجوة الفقر من 3 في المئة في عام 2012 إلى 9.4 في المئة في عام 2022. وهذا يدلّ على خطورة تعمّق اللامساواة في الدخل وتفاقمه في ظلّ الانهيار. في موازاة ذلك، ترتفع نسبة الفقر ارتفاعاً أكثر حدّة في أوساط النازحين السوريين الذين شملهم استطلاع البنك الدولي أيضاً، إذ يعيش نحو 9 من كلّ 10 سوريين تحت خطّ الفقر وتستهلك 45 في المئة من الأسر السورية معدّلات من المواد الغذائية أقلّ من المعدّلات المقبولة.

مواجهة الفقر بالمسكنات

منذ اندلاع الأزمة الاقتصادية في خريف عام 2019، بدأ معدّل الفقر بالازدياد توازياً مع انهيار القيمة الشرائية للعملة الوطنية. وبالتالي، وجدت الأسر، التي لا تستطيع الحصول على الدولار الأميركي، نفسها، معرّضة بشكل متزايد لمخاطر تصاعد وتيرة التضخّم، في حين أنّ الأسر التي تحقّق دخلاً بالدولار الأميركي وجدت نفسها قادرة على المحافظة على قدرتها الشرائية. وبدلاً من "تكحيل" المعالجات بالقضاء جذرياً على المسبّب الأساسي للفقر المتمثّل في انهيار سعر الصّرف، "أعمت" السياسات الاجتماعية المعالجات لكونها ركّزت على النتائج بدلاً من الأسباب. فاتجه لبنان "المفلس" والمتخلّف عن سداد ديونه، إلى الاقتراض من الجهة عينها التي تعرف "بير" الفقر و"غطاه"، أي البنك الدولي. وذلك من أجل تأمين معالجات محدودة جداً زمنياً وجغرافياً وقطاعياً، وبكلفة باهظة. فاستدان لبنان مرّتين من البنك الدولي مبلغ 546 مليون دولار، أي أكثر من نصف مليار دولار من أجل تأمين شبكة الأمان الاجتماعي، أو ما يعرف ببرنامج أمان لنحو عامين. القرض الأول نفد ولم يتجاوز عدد المستفيدين 93 ألفاً و500 أسرة، تشكّل حوالى 8 في المئة من مجموع الأسر اللبنانية. في حين أنّ نسبة المعاناة من الفقر تصل، باعتراف البنك الدولي، إلى 44 في المئة. أمّا القرض الثاني الذي صوّت عليه مجلس النواب بقيمة 300 مليون دولار، فمتوقف تنفيذه بموجب قرار من البنك الدولي بسبب الخلاف على جملة في القانون تحصر وضع الآليات التنفيذية له بيد الحكومة اللبنانية. الأمور لم تقف عند هذا الحدّ بل استدان لبنان ملايين الدولارات من أجل تأمين القمح لزوم صناعة الرغيف، وذلك كي لا يرتفع سعر الرّبطة من 60 ألف ليرة راهناً إلى 90 ألفاً، تعادل بالعملة الأجنبية السعر الذي كانت عليه قبل الانهيار، أي دولار واحد. فكبّد لبنان نفسه المزيد من الأعباء لاستيراد قمح مدعوم يستعمل في شتّى المخبوزات، بالإضافة إلى الرغيف العربي، وتباع بأسعار السوق. فتحقّق المطاحن والمخابز الأرباح على حساب الفقراء والخزينة وعموم المواطنين الذين سيسدّون القروض من الضرائب لاحقاً. أمّا تعليم الفقراء في المدارس الرسمية فيتمّ بمِنَح من اليونيسيف، وهو مهدّد بالتوقّف في حال عدم استجابة لبنان لشروط المنظّمة ومتطلّباتها. كذلك الأمر بالنّسبة إلى مشروع تمويل أكثر الأسر فقراً من الجهات الدولية. وهو شهد هذا العام تراجعاً كبيراً إلى نحو 33 مليون دولار، وهذا ما أدّى إلى تراجع التقديمات تراجعاً حادّاً.

التكيّف السلبي سيّد الموقف

القصور في معالجة الفقر دفع اللبنانيين إلى الاعتماد على مجموعة من الإجراءات، أهمّها ما يعرف بـ "التكيّف السلبي"، وانتظار تحويلات المغتربين. فاضطرت العائلات بحسب البنك الدولي إلى "خفض معدّل استهلاك الغذاء والنفقات غير الغذائية، فضلاً عن خفض النفقات الصحية. وقد أصبحت التحويلات الواردة من الخارج دعامة اقتصادية غاية في الأهمية، إذ ارتفعت من معدّل 13 في المئة من إجمالي الناتج المحلّي بين عامي 2012 و2019 إلى نحو 30 في المئة في عام 2022 (ويعود ذلك جزئياً إلى عدم زيادة إجمالي الناتج المحلّي بصورة حقيقية)، كما ارتفعت التحويلات بنسبة 20 في المئة بالقيمة الاسمية بين عامي 2021 و2022. ولهذه التدفّقات المالية دور متزايد الأهمية في منع سقوط شريحة من السكّان في الفقر".

السياسة الواجب تصحيحها

يتقاضى جزء كبير من اللبنانيين مدخولهم أو قسماً منه بالليرة، وفي طليعة هؤلاء موظفو الدولة، الذين يشكّلون نحو 30 في المئة من مجموع القوى العاملة. وعليه، فإنّ كلّ تحسّن بسعر الصّرف يعني تحسّناً تلقائياً في القدرة الشرائية. وهذا ما حصل مع تراجع سعر الصرف من نحو 120 ألف ليرة قبل آذار 2023 إلى 89500 ليرة راهناً. ويمكن القول إنّ تراجع سعر الصرف بمقدار النصف إلى نحو 40 ألف ليرة مقابل الدولار يخفّض نسبة الفقر إلى 22 في المئة. ومن البديهي القول إنّ تحقيق الإصلاحات الجذرية كفيل بتراجع سعر الصرف، وأهمّها:

- سنّ تشريع يمنع استدانة الدولة من مصرف لبنان بالليرة والدولار.

- منع مصرف لبنان من طبع ليرات أكثر من مستوى النمو المحقّق سنوياً.

- إيجاد حلّ عادل لأزمة الودائع.

- إعادة هيكلة الديون على قاعدة واضحة وصريحة منعاً لضياع ما تبقّى من احتياطيات بالعملات الأجنبية لا تزال تسهم في استقرار نسبيّ في سعر الصرف.

هذا من حيث السياسة النقدية أو اقتصادياً، فمن المهم الحدّ من العجز في الميزان التجاري من خلال تشجيع الصناعات الوطنية وترشيد الاستهلاك ولا سيما التفاخري. إذ بيّنت أرقام الدولية للمعلومات استيراد لبنان في العام الماضي 78 طناً من السيجار بقيمة 8 ملايين دولار بزيادة 45 طناً بقيمة 5.5 مليون دولار في عام 2022. كما استورد لبنان 31 طناً و800 كيلوغرام من سبائك الذهب بقيمة قاربت ملياري دولار في عام 2023 مقارنة بـ11 طناً في عام 2019 بقيمة 476 مليون دولار. كذلك لحظت التقارير انتعاشاً في استيراد الكافيار في عام 2022 إذ عادت الكمية المستوردة في عام 2022 إلى ما كانت عليه قبل الانهيار، في حين زادت القيمة أكثر من 80 في المئة. فكيف يمكن تبرير هذا النوع من الاستيراد في بلد يصنّف حوالى نصف سكّانه من الفقراء. وعليه، فإنّ الحدّ من عجز الميزان التجاري ووقف نزيف الدولارات كفيلان بتحسين الحساب الجاري، وبالتالي تعزيز متانة سعر الصرف وقوّته.

أمّا مالياً، فمن المهم ضبط التهريب والتهرّب الجمركي وكلّ أشكال الرّشى والفساد التي تضيع على الاقتصاد حوالى 5 مليارات دولار سنوياً. والعمل بجدية على وقف الاقتصاد النقدي الذي يشكّل أكثر من 46 في المئة من الناتج، ومكافحة جميع أن أنواع العمل والعمالة غير المنظمة.

إلى حين تحقّق الإصلاحات الجذرية، ولا سيما الاقتصادية النقدية والمالية، سنبقى على ضفة نهر الفقر نعدّ مع المنظمات الدولية "جثث" الضعفاء. ولعلّ من دواعي الأسف استمرار ازدواجية المعايير المتّبعة محلياً وخارجياً مع معالجة الفقر في لبنان، حيث يعطى الفقراء سمكة بدلاً من صنّارة.