جرياً على القول المأثور "لا يموت الذئب، ولا يفنى الغنم" المبني على التوازن الدقيق بين المنفعة والضرر، تتفتّق الأذهان عن حلول لإعادة تكوين الودائع. إذ بعد خمس سنوات على الانهيار اصطدم "الراعي" اللبناني بغياب الإجماع على تحميل المصارف مسؤولية تبديد الودائع من جهة، واستحالة وضع العبء على كاهل الدولة المفلسة من جهة أخرى. فتقدّم اقتراح استبدال الودائع، ولا سيما الكبيرة منها، بـ "سندات القسائم الصفرية" zero-coupon bond، كحلّ يمكن أن يعيد الجزء الأكبر من الوديعة مع مرور السنوات.

باختصار، ونتيجة تعقيدات المصطلحات المالية من المهم تبسيط معنى السندات الصفرية. فهذه السندات قسائم تُحدّد قيمتها الاسمية بناء على الاستثمار الأوّلي مضافةً إليه قيمة الفوائد التي ستستحقّ طوال فترة السند. ولكنّها تباع بدايةً بقيمة الاستثمار الأولي ومن دون قبض حاملها أيّ فوائد إلى حين استحقاقها بعد انتهاء الفترة المعيّنة. وعند انقضاء المدة تتبلور قيمة السند الفعلية، والتي يجب أن توازي جزءاً كبيراً من قيمة الوديعة بالنسبة إلى الحالة اللبنانية. وذلك بحسب معدّل الفائدة المعمول به. وكمثال تبسيطي، فإنّ صاحب الوديعة التي مقدارها 11 ألف دولار، قد ينال سنداً بقيمة 10 آلاف دولار، وبفائدة 10 في المئة، لمدّة عام، فيسترجع بعد انتهاء العام أساس المبلغ. إلّا أنّه بالأساس ليس هنالك سندات صفرية قصيرة الأجل، والمطروح في الحالة اللبنانية سندات لمدة 30 عاماً من دون أن يتّضح بعد قيمة الاستثمار الأولي، وهي القيمة التي تمثّلها نسبة الهيركات، ونسبة الفائدة المعمول بها. وفي جميع الحالات، يمكن المودع أن ينتظر 30 عاماً ليقبض المبلغ الذي يمثّل أساس وديعته، أو أن يبيع السند فوراً ويحصل على المبلغ المحسوم، أو أن يبيعه بسعر أعلى كلّما اقترب موعد الاستحقاق.

السندات الصفرية غير مفيدة في الحالة اللبنانية

العمل على ردم الفجوة النقدية المقدّرة بـ 72 مليار دولار، بالسندات الصفرية، ما هو سوى "ذرّ للرماد في العيون"، بحسب المستشار المالي الدكتور غسان شماس. وذلك انطلاقاً من ضبابية الأجوبة عن الأسئلة التالية:

ما هي قيمة السند الصفري؟

ما هي قيمة الفائدة؟

هل تستطيع الدولة اللبنانية إصدار هذه السندات بالدولار أم ستحوّلها إلى الليرة كيلا تصبح يوروبوندز رقم 2؟

وفي حال إصدار السندات بالليرة، وهذا هو المفضّل، فعلى أيّ سعر صرف؟

كيف يمكن حماية هذه السندات في حال إصدارها بالليرة من انخفاض قيمة العملة بعد عدد من السنوات Devaluation؟

انطلاقاً من هذه الأسئلة المجهولة الأجوبة، والتي تحتاج إلى نقاش عريض، يتّضح، بحسب شمّاس، عدم إمكان تطبيق السندات الصفرية على الحالة اللبنانية. "إنّما هذا لا يعني على الإطلاق عدم صوابية التفكير في السندات كحلّ لإعادة الودائع، ليست الصفرية، إنّما السندات الدائمة أو المتواصلة، التي يصطلح على تسميتها "Perpetual Bonds" التي سبق أن طالبنا بها كحلّ منذ سنوات وستثبت الأيام جدواها الكبيرة". فما هي هذه السندات؟ وكيف يمكن أن تخلّصنا من مأزق إعادة الودائع؟

السندات المتواصلة

خلافاً للسندات الصفرية التي لا يمكن تمديد آجالها المحدّدة سلفاً بمهلة زمنية والمعطاة "بهيركات" سيكون كبيراً نسبياً، تتميّز السندات المتواصلة بأنّها أكثر عدالة. وتنصّ هذه الطريقة على إعطاء المودع سنداً بقيمة وديعته كاملة. فإذا كانت قيمة وديعته مثلاً مليوني دولار يحصل على سند بالقيمة نفسها. ويجري في المقابل تقييد الاستفادة من هذه السندات بحيث يُشترط أن لا يستفيد حامل السند من الفائدة في الأعوام الثلاثة الأولى. ثم يمكن أن يستفيد المودع سنوياً من 5 في المئة من قيمة السند المخفّض. ليبدأ من السنة العاشرة مثلاً إعطاء فائدة 10 في المئة. "وبهذه الطريقة يفضّل المودعون الانتظار 10 سنوات لتقاضي الفائدة"، بحسب شماس، "ومن لا يستطيع الانتظار يبيع السند بحسم معين في السوق بالقيمة التداولية. وعليه، فإنّ نقل الودائع إلى سندات متواصلة كفيل بخفض قيمة الحسم من نحو 80 أو 85 في المئة راهناً على شيكات الدولار إلى 50 في المئة بسبب ازدياد عنصر الثقة".

الإصلاحات "الجذرية" أوّلاً

في الحالتين، لا يمكن تطبيق أحد الحلّين من دون إعادة هيكلة القطاع المصرفي. وهذا المدخل الطبيعي للإصلاح "مسدود بالكثير من العوائق"، برأي شمّاس، إلى درجة يخيّل للكثيرين أنّه من المستحيل الانتقال من الفوضى إلى التنظيم للأسباب التالية:

- الإصرار على عدم تطبيق القوانين المصرفية.

- حتمية تفصيل إعادة الهيكلة إذا حصلت لتناسب الصقور على حساب الحمائم.

- انسداد الأفق من جميع الجهات يدفع شماس إلى اقتراح حلّ، قد تثبت الأيام أنّه الوحيد الكفيل بإخراج البلد من مأزقه ويتمثّل الحلّ بالخطوات الآتية:

- اعتراف الدولة بالفجوة النقدية، وتحمّلها مسؤولية إرجاع المبلغ كاملاً إلى المودعين وليس إلى المصارف من خلال السندات المتواصلة Perpetual Bonds على عدد محدّد من السنوات بين 10 و15 عاماً حدّاً أدنى.

- تحوّل ملكية المصارف، كلّ المصارف إلى الدولة، بأصولها ورساميلها وأراضيها وديونها وقروضها.

- إعادة بيع رخص المصارف بحسب حاجة الاقتصاد الحقيقي وليس المحسوبيات. كأن تعطي 5 رخص لمصارف تجارية و3 استثمارية و4 مصارف عامة...

- الرخص تباع بمئات ملايين الدولارات، وهذا ما يوفّر مدخولاً كبيراً للدولة لتوظيفه في عملية التنمية.

- التعاون مع صندوق النقد والجهات الدولية لتعزيز أطر حماية القوانين المصرفية وأنظمتها.

- اشتراط اشتراك مصارف أجنبية كبيرة ومرموقة مع المصارف اللبنانية. وهذا ما فعلته سوريا، التي اشترطت وجود شريك إستراتيجي خارجي عمره أكثر من 20 عاماً في السوق، ويمتلك نسبة لا تقلّ عن 35 في المئة من المصرف.

الإصلاحات غير كافية

في خضمّ التخبّط، خلص بيان خبراء صندوق النقد الذين اختتموا زيارتهم إلى لبنان، أمس، إلى أنّه "لا يزال عدم اتخاذ إجراءات بشأن الإصلاحات الاقتصادية الضرورية يلحق خسائر بالاقتصاد اللبناني والسكان". وعلى الرغم من سماع الخبراء من المسؤولين فذلكات بعدم إمكان التوصل إلى أيّ حلّ من دون إنصاف المودعين، وإنصاتهم إلى اقتراح السندات الصفرية من المصرفيين، فقد أوصى صندوق النقد "على وجه الخصوص، إنّ غياب إستراتيجية للنظام المصرفي ذات صدقية وقابلة للاستمرار مالياً، لا يزال يعوق النمو الاقتصادي واستعادة أموال المودعين، في حين يؤدّي إلى زيادة حجم الاقتصاد النقدي وغير النظامي، وتالياً مخاطر أكبر للأنشطة غير المشروعة".

إزاء هذه الخلاصة، هل من حاجة إلى خاتمة!