شهدت مؤشرات الاقتصاد الكلّي (macro economy) "الحيوية"، خلال العام الماضي والربع الأول من العام الجاري، تحسّناً ملحوظاً. فاستقرّت "ضربات" سعر الصرف، وانخفضت "حرارة" التضخّم، وضبط "تنفّس" عجز الخزينة، وهدأ "ضغط" الانكماش. فهل يستفيق الاقتصاد من غيبوبته، قريباً؟

في أحدث تقاريره عن لبنان، توقّع البنك الدولي أن يصل نموّ النّاتج المحلّي الإجمالي الحقيقي إلى 0.5 في المئة خلال 2024. وذلك بعد تحقيق الاقتصاد واحداً من أسوأ الانكماشات الاقتصادية في التاريخ الحديث، خلال سنوات الأزمة الأربع الماضية. إذ تراجع النمو بنسبة 33.7 في المئة، هابطاً بالناتج المحلّي الإجمالي من حوالى 54 مليار دولار إلى 18 ملياراً.

ومن المتوقّع أيضاً، بحسب البنك الدولي، أن "ينخفض التضخّم خلال العام الجاري إلى رقمين عند 83.9 في المئة"، نتيجة الدولرة المتزايدة لأسعار السلّة الاستهلاكية. وذلك بعد تحقيق الاقتصاد معدّل تضخم من ثلاثة أرقام، وصل في العام 2023 إلى "221.3 في المئة"، بحسب الإحصاء المركزي.

الأسباب الكامنة وراء تحسّن المؤشرات الماكرو - اقتصادية

يُذكر أنّ توقّعات البنك الدولي الإيجابية أتت مشروطة بـ "وقف الأعمال العدائية (الحرب على جنوب لبنان) في النصف الثاني من العام الجاري، وتكيّف لبنان مع الأوضاع المتقلّبة. إذ سيعزز النمو في الاستهلاك الخاص المدعوم بالسياحة، والتحويلات المالية، واستقرار نشاط القطاع الخاص، استمرار تقليص الخسائر، ولكن بشكل غير مستقر". وممّا يُفهم بشكل مباشر من التقرير، أنّه لا يمكن الارتكاز على القطاع السياحي لبناء اقتصاد قوي وسليم. فعلى الّرغم من مساهمة هذا القطاع في النّاتج القومي بشكل كبير جداً (26 في المئة خلال العام 2023) فإنّ السياحة بحسب البنك الدولي "تميل إلى التقلّب، وتبقى عرضة للصدمات الخارجية والداخلية (ويعدّ امتداد الصراع الحالي مثالاً على ذلك). لذا لا يمكن القطاع أن يحلّ محلّ أكثر القطاعات استدامة". وعليه، "فمن دون خطّة لحلّ الأزمات، ونموذج جديد للنمو المستدام، من المرجّح حدوث المزيد من التآكل في مخزون رأس المال المادي والبشري والاجتماعي والطبيعي للبلاد".

على أنّ النتائج الإيجابية التي حقّقها الاقتصاد اللبناني منذ نهاية آذار 2023، والمستمرّة لغاية اليوم، تعود، بحسب البنك الدولي، إلى مجموعة تدابير بدأ تفعيلها بشكل جدي منذ الربع الثاني للعام الماضي. ومنها:

- عائدات السياحة القوية في الأشهر التسعة الأولى من العام 2023.

- زيادة الإيرادات العامّة، النّاتجة من تصحيح التقويمات المخطئة لأسعار الصرف بالنسبة إلى الجمارك والضرائب. إذ يقدّر أن تكون الإيرادات العامّة قد ارتفعت من 6.1 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي في عام 2022، إلى 15.3 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي في عام 2023.

- توقف الإدارة الجديدة لمصرف لبنان عن التمويل النقدي للموازنة ابتداءً من النصف الثاني من عام 2023.

- موافقة البرلمان على موازنة الحكومة لعام 2024 في شباط 2024، ضمن المهلة الدستورية لأول مرة منذ عقدين، مترافقة مع توقع الحكومة أن لا تحّقق هذه الموازنة البالغة 17.3 في المئة من الناتج، أي عجز.

الانكماش الحادّ قد يعود قريباً

بناء على ما تقدمّ، يظهر بوضوح أنّ استقرار المؤشرات الاقتصادية الحيوية وتحسّنها الملحوظ، يتسمان بهشاشة بالغة. فبالإضافة إلى التقلّبات الحادّة في العائدات السياحية، وتأثّرها بالظروف، فإن "ميزان المالية العامة لا يأخذ في الاعتبار المتأخّرات السابقة وقروض الحكومة بالعملة الأجنبية"، بحسب البنك الدولي. كما أنّ "موازنة 2024، في جوهرها، فرصة ضائعة لإحداث تغيير شامل تشتد الحاجة إليه في عمليات الموازنة والسياسة المالية الناقصة. وهي عبارة عن جمع بسيط لتكلفة المدخلات لكلّ وزارة، وجمع لإيرادات الضرائب التنازلية. إذ تشكّل إيرادات الضرائب 79 في المئة من إجمالي الإيرادات، منها 76 في المئة ضرائب غير مباشرة".

إنّ التوقّعات الوسطية للبنك الدولي لهذا العام، المعطوفة على توقّعات لم تصب، نتيجة تقلّبات الظروف في العام 2022، بإمكانية تحقيق لبنان نمواً بنسبة 1.2 في المئة، تجعلنا نقف إزاء سيناريوين بحسب عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي د. أنيس بودياب:

الأول، متشائم مرهون بإمكان توسع الحرب، وهذا ما يؤدي إلى انكماش يتجاوز 8 في المئة.

الثاني، متفائل ومرتبط بالتوصل إلى هدنة طويلة الأمد تعقبها مرحلة من الاستقرار السياسي، وانتخاب رئيس للجمهورية، وانتظام عمل المؤسسات، وهذا ما قد يسمح بتحقيق نمو اقتصادي بين 3 و4 في المئة.

وفي الشرط الأخير، أي انتظام عمل المؤسسات، مفتاح الحل والربط. وهو ما أكّد عليه مجدداً صندوق النقد الدولي على مسامع المسؤولين اللبنانيين الذين زاروا واشنطن أخيراً. "إذ من دون تحقيق الشروط الجوهرية، مثل إعادة هيكلة القطاع المصرفي ووضع خطة للنمو، وتوزيع الخسائر في النظام المصرفي على قواعد عادلة وواضحة، لا يمكن الانطلاق برحلة النمو الطبيعي والمستدام"، برأي بودياب. عدا ذلك، يبقى كلّ ما نراه ونسمعه "أضغاث أحلام". أي جمع أرقام مبعثرة ومختلطة، ووضعها في سياق واهم للإيحاء بتحسّن الأمور، في حين أنّها مجرّد وهم. مثال على ذلك، بناء توقّعات إيجابية على وجود 3 مليارات دولار طازجة في القطاع المصرفي، والإيحاء ببدء استعادة القطاع عافيته من دون أيّ إصلاح أو تدخّل داخلي أو خارجي لإعادة هيكلته. علماً أنّ هذه الأرقام ما هي إلّا الأموال التي "تغطّ" في المصارف و"تطير" سريعاً لأغراض فتح الاعتمادات التجارية، والتحويلات للأفراد والمنظمات والجمعيات العاملة في لبنان"، في نظر بودياب. وهي أقلّ ما يمكن في بلد استورد في عام 2023 نحو 19 مليار دولار، ويتلقى تحويلات سنوية لا تقلّ عن 7 مليارات دولار. وهذه العمليات محكومة بالمرور بالقنوات المصرفية. خصوصاً في ما يتعلّق بفتح الاعتمادات التجارية لأغراض الاستيراد". وما يؤكّد صحّة رأي بودياب، هو طبيعة الودائع الطازجة القصيرة الأمد في المصارف، التي لا تلاقي ترجمتها الفعلية في التعميم 165، الذي ينصّ على فتح مقاصّة لتسهيل تداول الشيكات بالودائع الجديدة بالليرة والدولار. إذ بلغ العدد التراكمي للشيكات الصادرة من حسابات جديدة في الربع الأول من العام الجاري 4317، منها 2965 شيكاً بعملة الدولار الأميركي مقدارها 36.16 مليون دولار فقط. وهو ما يبدّد نظريّة وجود ودائع ثابتة مقدارها 3 مليارات دولار.

انطلاقاً مّما سبق، لا يمكن، برأي بودياب، أن "يكون لدينا سيناريو أفضل، إلّا في ظل تحقيق الإصلاحات الأساسية وانتظام عمل الدولة".

أرقام الموازنات وهمية

يضاف إلى التعقيدات المالية والاقتصادية، "ضغط النازحين السوريين"، بحسب الخبير المالي والاقتصادي الدكتور علي كمّون. "وهو الضغط المتوقّع أن يتفاقم ولا يتناقص في الفترة المقبلة، وذلك بسبب إقفال الحدود السورية التركية والقبرصية وصولاً إلى الأوروبية في وجه السوريين، ولم يبق أمام السوريين الذين يعانون من وضع اقتصادي خانق إلّا المنفذ اللبناني. وهو ما يترجم، بحسب كمون، بدخول الآلاف منهم، رغم كلّ الحملات الرسمية والشعبية للتخفيف من ضغط النازحين". وبرأيه، فإنّ "موازنة العام 2025 ستتضمّن عجزاً يبلغ نحو 12 في المئة حدّاً أدنى، وذلك بسبب التوسّع بالإنفاق على القطاع العام وتأجيل الصرف على الكثير من النفقات الضرورية، خصوصاً إذا لم يدخل لبنان في التسوية الشاملة التي قد تقلّص نتائجها العجز".

صحيح أنّ المؤشّرات الحيوية للاقتصاد تحسّنت، لكنّه لا يزال "فاقداً الوعي". واستيقاظه يتطلّب أكثر بكثير من إضاءة بعض الأرقام باللون الأخضر على شاشة المراقبة بشكل مصطنع وغير مستدام. فهو يحتاج إلى عملية جراحية لاستئصال "ورم" الفساد والمصالح المنفعية عند الطبقة السياسية، وعندئذ لكل حادث حديث.