موقف صندوق النّقد من الأزمة الحالية اللبنانية يتمثّل بالتالي: يُطالب بإصلاحات في مالية الدولة، والقطاع المصرفي، ومصرف لبنان، ويُطالب بتحرير سعر صرف الليرة مُقابل الدولار الأميركي، وخروج الدولة من المجال الاقتصادي، ورفع السرية المصرفية رفعًا كاملًا، ومكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، وضبط الحدود البرية لمنع التهريب (مطلب أممي أيضًا ولكن لأهداف سياسية).

لكن دون كلّ هذه المطالب عقبات كثيرة، لعلّ أهمّها الانقسامات السياسية الكبيرة على المواضيع الإقليمية، والفساد المُستشري الذي سيتوقّف حكمًا بمجرّد القيام بهذه الإصلاحات. واشتهر السياسيون اللبنانيون بالتعطيل إذ يؤدّي أيّ خلاف سياسي أو أيّ تضارب في المصالح بين القوى السياسية، إلى التعطيل على جميع المستويات. والأمثلة على ذلك كثيرة، خصوصًا منذ العام 2005.

في الظاهر، فإنّ مطالب صندوق النقد الدولي مُحقّة، وهي تصبّ في مصلحة لبنان. إلّا أنّ بين هذه المطالب – خصوصًا إذا ما دخلنا في التفاصيل – ما لا يتوافق مع مصالح لبنان والشعب اللبناني، أقلّه في المدى القصير. على سبيل المثال، الإصلاحات في المالية العامّة، إذ إنّ المطلب الرئيسي لصندوق النقد الدولي ألّا تتخطّى نسبة الدين العام إلى النّاتج المحلّي الإجمالي المئة في المئة. فهذا المطلب (المُحقّ) يحمل في طيّاته شطب الدين العام المُموّل من أموال المودعين بنسبة كبيرة، وهو أمرٌ لا يُمكن القبول به لا أخلاقيًا ولا قانونيًا، خصوصًا بعد قرار مجلس شورى الدولة الأخير الذي أبطل قرار الحكومة بشطب الدين العام.

كذلك من الأمثلة التي يُمكن ذكرها، إلزامية قيام الدولة ببيع مؤسّساتها العامّة الواحدة تلو الأخرى بهدف تحسين ماليّة الدولة وخروجها من المجال الاقتصادي، إذْ إنْ الفساد المُستشري سيؤدّي إلى بيع هذه المؤسسات بأبخس الأثمان! وهنا يتمّ تناسي الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وذلك من باب عدم إنشاء هيئات ناظمة للقطاعات الاقتصادية كافّة.

عمليًا، تصبّ كلّ هذه التعقيدات في مصلحة بعض أصحاب النفوذ من قطاع عام وقطاع خاص، حيث أنّ استمرار الواقع الذي يمرّ به لبنان يسمح باستمرار تدفّق الأموال إلى هؤلاء بشكل غير معهود تاريخيًا. وأكبر مثال على ذلك التعامل بالكاش الذي يجلب منافع عدّة إلى بعض رجال الأعمال، ومن خلفهم بعض أصحاب النفوذ. وبالتالي، سيُحاول هؤلاء بشتّى الوسائل وضع "عصي في الدواليب" لمنع إجراء إصلاحات جوهرية في النظام المالي والنقدي والاقتصادي والإداري.

يقول أحد رجال الأعمال في مجلس خاص ردًّا على سؤال أحدهم عن سبب بقائه في لبنان في ظلّ هذا الوضع، إنّ هذه الفترة هي الأكثر ربحية في تاريخ أعماله، ولن يجد في أيّ مكان في العالم ربحية تعادلها. العديد من رجال الأعمال استطاعوا سدّ ديونهم الكبيرة بمبالغ بخسة، وزادوا من أرباحهم بواسطة التعامل بالكاش وعدم التصريح لوزارة المال عن الأرقام الحقيقية.

إذًا، كيف لأشخاص نافذين أن يقبلوا بإجراء إصلاحات ويوقفوا دخلهم الكبير هذا؟ الجواب بالطبع هو أنّهم سيُحاولون بشتّى الوسائل منع إجراء الإصلاحات، وأبرز هذه الوسائل المُتاحة الرشوة، وأيضًا قطع الإمدادات في المواد الأساسية، ولبنان مربع الاحتكارات.

ممّا تقدّم، قد يظنّ القارئ أنّ المسؤولية تقع على القطاع الخاص وحده، إلّا أنّ الحقيقة هي أنّ الفساد المُستشري في مركز القرار استولد احتكارات جعلت من شبه المُستحيل احترام قواعد اللعبة الاقتصادية المبنيّة في الدرجة الأولى على التنافسية. ولم تُصحح أيّ سياسة حكومية هذا الخلل، بل على العكس، ازدادت قوّة الاحتكار مع الوقت إلى درجة يُمكن من خلالها القول إنّ الاحتكار أخضع القرار السياسي وأصبح مشروع قانون التنافسية يقبع في جوارير الوزارات.

وتنصّ نظرية الـ Principal-Agent في ما يخصّ تشريح علاقة الفاسد والمُفسد، على أنّ هناك أربع حالات ممكنة تضع الطلب، أي مسؤول من القطاع العام، مع العرض، أي لاعب من القطاع الخاص:

أولًا – حالة التساوي بين الطلب والعرض (الاحتكار الثنائي): تنصّ هذه الحالة على أنّ ميزان القوى بين العرض والطلب متوازن إذ إنّ النخبة السياسية والنخبة الاقتصادية تكونان في حالة من التناغم الكّلي تسمح لهما بالاتفاق على عقود الفساد في ما بينهما مع استثناء صغار الموظفين الذين يخضعون لسلطة القانون. هذه الحالة تنطبق على الدول المُتطوّرة، مثل الدول الأوروبية حيث عمدت النخبة السياسية إلى سنّ قوانين تمنع الموظفين الصغار في الإدارة العامّة من القيام بعمليات فساد.

ثانيًا – حالة سيطرة الطلب على العرض (Kleptocracies): في هذه الحالة، هناك نوع من الابتزاز يُمارسه القطاع العام على القطاع الخاص الذي ليس له كلمة في مقدار الرشوة. لذا نرى منافسة محتدمة بين أفراد القطاع الخاص لدفع الرّشى ويتمّ في بعض الأحيان استخدام القوّة لإلغاء المنافسين الذين يكونون في حال من الضعف نسبة إلى القطاع العام. وفي هذه الحالة، وفق النظرية، هناك إهدار لحقوق الإنسان وحقّ الملكية في البلد المعني. وتُصنّفه النظرية على أنّه أسوأ أنواع الفساد وله مفاعيل سلبية جدًا. وتُضيف النظرية أنّ الأغنياء ورجال الأعمال في القطاع الخاص بهذه البلدان يسعون إلى الحصول على مناصب عامّة بهدف الحفاظ على ثرواتهم الشخصية وتفادي ابتزاز القطاع العام. هذه الحالة تنطبق على دول في طور النمو مثل لبنان.

ثالثًا – العرض يفوق الطلب: في هذه الحالة، هناك نخبة من القطاع الخاص تتكوّن، عادةً، من رجال أعمال يملكون ثروات هائلة أو شركات عالمية، وتعمد إلى الضغط على القطاع العام بهدف الفوقية. هذه الحالة قائمة في بلدان فقيرة جدًا (أفريقيا) حيث يجد حكّامها هذه الوسيلة سهلة لجمع الثروات. لذا نرى أنّ الدولة (وحكّامها) تخضع لابتزاز هذه النخبة تمامًا كما فعلت شركات النفط العالمية مع بعض حكّام الدول الأفريقية.

رابعًا – حالة التشرذم إذ تبقى عمليات الفساد مُشرذمة بسبب كثرة اللاعبين من جهة العرض والطلب. هذه الحالة تعانيها بعض دول أوروبا الشرقية كأوكرانيا ورومانيا وغيرهما من الدول التي خرجت من كنف الشيوعية السوفياتية.

في الختام، ليس بالوسع القول إلّا أنّ تشابك مصالح أصحاب النفوذ في القطاعين العام والخاص هو العقبة الأساسية في طريق القيام بإصلاحات مُستدامة على نحو يخدم الشعب اللبناني (وليس أصحاب النفوذ ولا صندوق النقد). هذا التشابك لا يُمكن تفكيكه إلّا من خلال قضاء مُستقلّ يقوم بدوره المنصوص عليه في الدستور والقوانين المرعية الإجراء.