شوّهت الأزمة الاقتصادية في سنوات قليلة، المطلب التاريخي الأول المتعلّق بالحماية الاجتماعية. فلم يكد "ضمان الشيخوخة" يخطو خطواته الأولى على "ملعب" الحقوق الإنسانية، حتّى "مدّ" انهيار سعر الصرف "قدمه الطويلة" معرقلاً إيّاه. فسقط أرضاً، ولم يعاود النهوض رغم محاولات التضميد البسيطة.

في 23 أيار 2017، وافق مجلس الوزراء على قرار مجلس إدارة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الرقم 997 المتعلّق بـ"إفادة المضمونين المتعاقدين من تقديمات فرع الضمان والأمومة في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي". وعليه، يستمرّ المضمون، الذي بلغ السن القانونية للتقاعد (60 – 64 سنة مكتملة) وتخلّى عن العمل المأجور نهائياً، بالاستفادة من تعويضات صندوق المرض والأمومة إلزاماً وليس اختياراً. كما يستفيد مع المضمون المتقاعد، والداه، والزوج/ة، ومن كان من أولاده غير قادر على العمل لعاهة خلقية، والأولاد الذين لم يتخطّوا 18 عاماً.

المضمونون الإلزاميون يعانون

شكّل القرار عند البدء بتطبيقه نقلة نوعية في نظام الحماية الاجتماعية المعتمد في لبنان. ووفّر للمتقاعدين خدمات الرعاية الصحّية والاستشفائية الباهظة الكلفة، على نحو شبه مجّاني، مقابل اشتراكات شهرية حدّدت بـ9 في المئة من الحدّ الأدنى للأجور. إلّا أنّ هذا الأمان لم يلبث أن راح يتلاشى بعد العام 2020، إذ ارتفعت كلفة الاشتراكات المتوجّبة على المضمونين من 60 ألف ليرة، قبل العام 2020، إلى مليون و620 ألفاً، اليوم. وتراجعت في المقابل التغطية الاستشفائية، ولم يعد الضمان يغطّي أكثر من 20 في المئة من التكاليف الطبّية. "فأصبحنا، نحن الذين لا نعمل، مجبورين على تسديد 4 ملايين و850 ألف ليرة للضمان كلّ ثلاثة أشهر، من دون أنّ ننال الخدمات الاستشفائية الكافية والوافية"، يقول جورج الراعي، وهو أحد المشمولين بالضمان الإلزامي. "وممّا زاد من معاناتنا، حصولنا من الضمان بعد الانهيار على تعويض نهاية خدمة، فقد 90 في المئة من قيمته، ولم يتجاوز في أكثر الحالات بضع مئات من الدولارات (700 دولار في حالتي). وأخذنا نستدين من أبنائنا ومعارفنا لتغطية الاشتراكات التي لا يوجد مقابلها الخدمات المطلوبة".

المستشفيات تحذّر الجهات الضامنة

ما زاد الطين بلّة تحذير نقابة المستشفيات الخاصة في بيان قبل أيام قليلة من عدم قبول المضمونين على نفقة وزارة الصحة والضمان الاجتماعي تحديداً. وذلك بسبب عدم مطابقة التعرفات الموضوعة مع الكلفة الحقيقية التي تتحمّلها المستشفيات، والتأخّر عن تسديد المستحقّات فترات طويلة. وهذا سيحرم المضمونين، ولاسيما منهم المتقاعدين، من الخدمة الأساسية التي يستفيدون منها من انتسابهم الإلزامي للضمان.

لا يقارن بالتأمين الخاص

يبلغ عدد المضمونين إلزاماً نتيجة بلوغهم سن التقاعد 23 ألفاً، ويصل العدد الإجمالي إلى 40 ألفاً مع احتساب عدد الأفراد المحسوبين عليهم. وبحسب الأرقام، فإنّ رسم الاشتراك الشهري المتوجّب على المضمون بعد رفع الحدّ الأدنى للأجور إلى 18 مليون ليرة، أصبح يقارب 17 دولاراً، أي نحو 200 دولار سنوياً. "وهو رقم يبقى أقلّ بما لا يقاس مع كلفة التأمين الخاص لمن تجاوز 64 عاماً"، يقول المدير العام للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الدكتور محمد كركي. "إذ قد تصل الكلفة إلى نحو 8000 دولار على الزوج والزوجة". من هنا فإنّ البحث يجب أن يرتكز على كيفية تفعيل خدمات الصندوق وزيادة تقديماته، وليس إقصاء هذه الفئة أو التوقّف عن تنفيذ القرار لأنّ الاشتراكات ارتفعت. إذ إنّها ستعجز حتماً عن تأمين البديل وستُنزع عنها مظلّة الحماية الاجتماعية. والمطلوب القليل من الصبر، خصوصاً أنّ "تقديمات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ترتفع تدريجياً، وأصبحت اليوم قرابة 50 في المئة من التغطية التي كانت معتمدة سابقاً"، بحسب كركي. "ونحن ذاهبون قريباً باتجاه تغطية ما بين 70 و90 في المئة، أي إلى النسب نفسها التي كان معمولاً بها قبل الانهيار". من دون أن يعني ذلك من وجهة نظره "عدم التفكير جدياً في إيجاد الحلول لبعض كبار السن من المتقاعدين الذين فقدوا أموالهم في المصارف، أو نفدت تعويضاتهم الزهيدة أو لا تسمح ظروفهم بتأمين الاشتراك الشهري، كي يكونوا قادرين على تسديد المتوجّب عليهم".

كلفة النظام الحقيقية على المضمونين رمزية

بالإضافة إلى الاشتراكات الرمزية التي يدفعها المضمونون، فإن تمويل نظام الحماية الاجتماعية يقوم بشكل أساسي على:

- الاشتراكات المتوجّبة على أصحاب العمل والأجراء أو الأشخاص العاملين الخاضعين لهذا النظام بنسبة 2 في المئة من الكسب الخاضع للاشتراكات ضمن الحدّ الأقصى المعمول به.

- الاشتراكات المتوجّبة على الدولة عن جميع الأجراء أو الأشخاص العاملين المشمولين بهذا النظام، بنسبة 1 في المئة من الكسب الخاضع للاشتراكات، ضمن الحدّ الأقصى المعمول به.

- مساهمة الدولة المحدّدة بنسبة 25 في المئة من تقديمات هذا النظام،

- إيرادات توظيف الأموال العائدة إلى هذا النظام.

انطلاقا مماّ تقدّم، فإنّ هناك نحو 430 ألف أجير مسجّل في الضمان الاجتماعي، يسدّدون جزءاً من اشتراكاتهم لتمويل النظام، وأصحاب العمل يسدّدون الجزء الثاني، والدولة تسدّد الجزء الثالث. وعلى هذا النحو "تتجمّع المداخيل من هذه المصادر من أجل الاستمرار في تمويل التغطية الصحّية والاستشفائية لهذه الشريحة التي أصبحت عاجزة عن العمل"، يقول كركي. "وعليه، فإنّ ما تحقّق كان إنجازاً كبيراً على جميع المستويات. إلّا أنّ هذه الشريحة من المضمونين تمر، على غرار الضمان، ببعض الصعوبات بسبب الظروف التي وصل اليها لبنان. ونحن نأمل أن تكون هذه المرحلة فترة انتقالية قصيرة الأمد يعود بعدها المضمونون الإلزاميون إلى دفع اشتراكاتهم من دون أيّ صعوبات ويعود الضمان إلى لعب الدور المنوط به ويقدّم جميع التقديمات الصحية كما نصّ عليه القانون".

وهكذا تحوّلت نعمة ضمان الشيخوخة الصحّية نقمةً، بعد أقلّ من 3 سنوات على ولادتها. وكلّما فُكّت عقدة برزت عُقد جديدة. مع الإشارة إلى أننا نمرّ في مرحلة استقرار مصطنع لسعر الصّرف. فكيف سيكون الوضع إنْ عاود الدولار ارتفاعه وفقدت الليرة المزيد من قدرتها الشرائية؟