في خضّم ملاحقة المؤسسات المالية بـ"جرم" الترخيص خارج لبنان، لا بد من التوقّف عند إشكالية طرحها الصناعي والوزير السابق فادي عبود. إذ يقول في مقال له: "يكثر التنظير الاقتصادي في هذه الأيام (...) لكن يبدو أن لا أحد (من المنظّرين) يدفع معاشات آخر الشهر، ويصدّر حاويات (...) ويستميت لإبقاء سلعة أو انتاج على قيد الحياة". ما يرمي إليه عبود هو سهولة التنظير عن بعد، التي تنسحب على طريقة التحقيق مع المؤسسات المالية من الأجهزة الأمنية والقضاء على السواء. ومن دون أن نسأل هل تداول أحد من المحققين سهماً أو تابع مرّة أخبار الأسواق المالية، فمن الواضح افتقادهم المعرفة البديهية في آلية عمل الأسواق المالية… وهم معذورون!

تفيد المعلومات المتداولة بأنّ المطلعين على ما يحصل في قضية المؤسسات المالية، وتحديداً المرخّصة خارج لبنان، يجهلون سبب الاستمرار في توقيف أصحابها منذ أكثر من نصف شهر، إضافةً إلى بضعة سماسرة صغار يعملون لمصلحة شركات كبيرة مرخّصة أو غير مرخّصة، وعلى ذمّة التحقيق بشكل مخالف للمنطق والقانون.

استمرار التوقيف

فلنسلّم جدلاً أنّ أصحاب هذه الشركات أو السماسرة مخالفون لكونهم لا يحوزون رخصة من هيئة الأسواق المالية اللبنانية، فإنّ تلك المخالفة هي في أقصى حالاتها جنحة، ولا يمكن توقيفهم أكثر من أربعة أيام "قيد التحقيق"، ومن ثمّ تخلية سبيلهم مع كفالة وإحالتهم إلى القضاء المختص لمحاكمتهم، وليس قانونياً إبقاؤهم في الحجز أكثر من 15 يوماً. علماً أنّ التحقيق لدى أمن الدولة انتهى في اليوم الثالث من توقيفهم.

وتشير أوساط قضائية إلى أنّ الاستمرار في التوقيف رغم عدم ثبوت أيّ من التّهم الموجهة إليهم أثناء التحقيق، وفراغ الملف من معطيات جدّية تؤكّد وقوع الجرم، مردّه إلى خشية قضاة النيابة العامّة المالية من اتهامهم بالتقصير أو عدم القيام بدورهم، خاصّةً أنّ الذي حرّك الملف هو الإعلام. وبالتالي، فإن سيف السلطة الرابعة سيبقى مصلتاً على رقبة السلطة الثالثة، وإن أدّى الموضوع إلى ظلم الموقوفين وتحويلهم كبش محرقة أمام غيرهم من "المحظوظين".

أنواع التهم الموجّهة

في غضون أيام التوقيف الطويلة، لم تزد ساعات الاستجواب على أصابع اليد الواحدة، ولم يصل التحقيق، بحسب المعلومات، إلى تثبيت التّهم الموجّهة من النيابة العامة المالية، أو حتى ربطها بأيّ خلفية منطقية، وهي: إساءة الأمانة والاحتيال والتهرب الضريبي وتبييض الأموال. فكشوفات الحسابات للزبائن المقدّمة إلى عناصر أمن الدولة وحركة العمليات، تُثبت عدم وجود إساءة أمانة، أمّا عناصر جرم الاحتيال فهي غير متوفرة لأنّ تلك الشركات موجودة فعلياً في دول خارجية، وهي مرخصة من الهيئات المالية ولديها مكاتب وموظفون وحسابات مصرفية في داخل لبنان وخارجه، وجميع عملائها يعلمون علم اليقين أنّها غير مرخّصة على الأراضي اللبنانية. ويبقى موضوع التهرب الضريبي وتبييض الأموال وهو أبعد ما يكون من الواقع، لكون النيابة العامة المالية، على جاري العادة، تدّعي به وإنْ لم تشتبه به.

أمّا موضوع "الجارور" الذي فُسِّر إعلامياً بشكل مخطئ بحيث أوحي للعامة أنّ الجارور هو وسيلة سرقة، فما هو في الحقيقة سوى "صانع السوق" وإستراتيجية استثمارية تهدف الى إدارة المخاطر وحماية الشركة والمستثمر من حيث توزيع المخاطر، وعدم ربط مصير الاستثمار بشركة واحدة من الشركات المراسلة Counterparty risk في وقت واحد.

مصادر المبالغ المالية

لم يبق في "ميدان" التهم إلّا "حديدان" وجود مبالغ مالية في مكتب واحدة من هذه الشركات، ويحكى في السوق أنّ المبالغ وصلت الى عدة ملايين من الدولارات، أمّا مصادر جهاز أمن الدولة فتؤكد أنّ المبلغ المصادر هو مئتا ألف دولار أميركي وتسعون ألف يورو. فهل أصبح وجود أموال في إحدى الخزنات جرماً في بلد فقد ثقته بالمصارف؟

وقد تمّ التلميح إلى إمكان أن تكون تلك الأموال تخصّ الزبائن. وهو ما يتنافى مع إثبات أنّ فتح محافظ رقمية للتداول في الأسواق الخارجية عبر شركات البورصة يتمّ من خلال واحدة من الطرائق الثلاث التالية:

- التحويل مباشرةً إلى المصرف المعتمد من قبل الشركة الأجنبية.

- شراء USDT، وهي عملة مشفرة، وتحويلها إلى المحفظة الرقمية الخاصة بالشركة.

- تحويل المبالغ عبر شركات الأموال.

وهذه الطرائق الثلاث تنفي وجود التعامل النقدي مع الزبائن، وذلك على عكس عشرات الشركات التي تجمع الأموال لمثل هذه العمليات بـ"الشنطة" من لبنان، وهي معروفة في صفوف المتداولين و"لم يدقّ أحد بابها".

الخسائر المترتبة كبيرة

بالإضافة إلى خسارة السمعة التجارية التي تتعرّض لها الشركات المالية نتيجة المعالجة السطحية للقضية، وامتدادها فترة زمنية طويلة وعدم الحسم، تتكبّد هذه الشركات خسائر مادّية كبيرة مباشرة وغير مباشرة. ففي إحدى الشركات مثلاً صودرت 300 ألف دولار، وبحسب القانون يُقتطع منها تلقائياً 10 في المئة، أي 30 ألفاً تذهب إلى صندوق تعاضد القضاة، ولا يعاد هذا المبلغ حتّى لو أثبتت براءة المدّعى عليه. وهذه الخسارة تبقى أسهل جدًّا من خسارتين قادمتين على الطريق:

الأولى: خسارة الزبائن.

الثانية: إمكان تعريض الشركة للابتزاز من قبل العملاء. فأيّ متضرر أو خاسر في التداول سيجد فرصة لابتزاز الشركة ومطالبتها بمبالغ مالية تحت تهديد التقدّم من القضاء على أنّه متضرّر من عمل الشركة.

كبش المحرقة

دليلان قاطعان دلّا خلال التحقيق على عدم امتلاك أجهزة التحقيق المعرفة بطرائق عمل الشركات المالية، وهما:

تمحور الأسئلة على أمور بعيدة عن جوهر المشكلة، كأن تسأل الشركات عن أسماء العملاء وحساباتهم ضاربةً بالسرّية المهنية عرض الحائط.

سؤال المحققين لأحد السماسرة الصغار الموقوفين، هل للأسهم المتداولة وجود حسي أو فعلي؟ في رأي المحققين أن تداول زبائن الشركة عقود الذهب الآجلة مثلاً، يتطلّب من الشركة أن يكون لديها احتياطي ذهبي بالقيمة نفسها. أو أنّ تداول أسهم القمح يفرض أن يكون للشركة مخازن حبوب، وهكذا دواليك. وذلك من دون أيّ معرفة جدية بطريقة التداول أو عمل الشركات المالية ودورها، علماً أنّ هناك ما يسمّى العقود الآجلة والمراهنة و "عقد الفرق - CFD "، وهو نوع من المنتجات المشتقة التي يمكن استخدامها للمضاربة. فعند التداول عبر العقود مقابل الفروقات، فإنّك لا تمتلك ملكية الأصل الأساسي، وهذا يعني أنّه يمكنك الاستفادة من ارتفاع الأسواق وانخفاضها من خلال الشراء أو البيع.

هذه المعالجة السطحية لملفّات مالية بهذا التعقيد، "لا يتحمّل القضاء العادي وأجهزة التحقيق الأمنية مسؤوليتها"، بحسب أوساط متابعة. "فالقضاة والمحققون لا يملكون الإمكانات والمعرفة المعمّقة بهذه الأمور التي تتطور بسرعة رهيبة". "ولكنهم يلامون على استيلاد "كبش محرقة" كيلا يخرج فارغاً هذا الملف بعدما أُثير إعلامياً بشكل كبير".

تفلّت سوق "الكريبتو"

في الوقت الذي يستمر توقيف شركات مالية مرخّصة في الخارج، إضافةً إلى سماسرة بورصة أفراد، يبدو سوق "الكريبتو" متفلّتاً. فبحسب أحد الإحصاءات، هناك تطبيق Binance Account على هاتف جوال من أصل كلّ 5 هواتف موجودة في لبنان. وعلى الرّغم من أن هذه الشركة غير مرخصة في لبنان ولا تتبع المعايير وغير مراقبة وتورّط الآلاف، إن لم يكن الملايين من اللبنانيين، بمداولات خارجة عن أي إطار رقابي، فهي ما زالت تعمل بمعزل عن الملاحقة، فـ "كلّ شي فرنجي برنجي" بحسب أحد المتابعين، والدولة لا قدرة لديها على ملاحقة تلك التطبيقات الأجنبية ووقفها، فيتم توقيف بعض صغار السماسرة اللبنانيين.

ومع هذا، فإنّ تطبيق Binance واحد من عشرات التطبيقات التابعة لشركات غير مرخصة في لبنان، فلماذا لا توقف أو تلاحق؟ الجواب بسيط، "لأنّه في زمن التكنولوجيا المالية أو ما يصطلح على تسميته Fintech يمكن متداولاً موجوداً في الصين أن يفتح حساباً في شركة في البيرو ويحوّل الأموال عبر بطاقته المصرفية أو محفظته الرقمية. فلا المتداول خالف القوانين ولا الصين خالفت ولا البيرو تعتبر مخالفة. وهذا ما يحصل حالياً في لبنان.

على أن أساس المشكلة التي نحن في خضمّها، واحد، هو "غياب هيئة الأسواق المالية عن الوعي" بسبب تعطيلها المقصود منذ نحو سنتين. فلو قامت هذه الهيئة بدورها على صعيد الترخيص للشركات ومتابعتها ومراقبتها واستكمال نظامها الداخلي بإنشاء محكمتها الخاصة، لما وصلنا إلى ما نحن فيه. فهل يستخلص المسؤولون عبراً من ذلك كله؟