من أصدقائي في عالم الفن، روني برَّاك المؤلف الموسيقي، ولا يستغربنَّ أحد هذه الصفة له، وإن اشتُهر "ضابطَ إيقاع". قصدته أمسِ في الستوديو خاصته، في محلة الكسليك، بعد طول غياب، ووجدته مكبًّا على تأليف موسيقى تصويرية لفيلم أميركي. وأمضيت وقتًا أستمع إلى مقطوعات من الفيلم، وأناقشه في جملها الموسيقية، ويشرح بشغفه المعروف ويفيض. وكان لمسار روني ومسيرتِه حديث وذكريات.

أن تقول روني برّاك، تدرك رويدًا رويدًا أن "ضابط إيقاع" صفة قليلة عليه. "استعراض مدهش في شخص"، صفة تطلقها العين ولا تخطئ في ما ترى. لكنَّك، حين تغوص في تجربته وتطَّلع على مشروعه وتراقبه، عازفًا أو متحدِّثًا، تكنه سرَّه. وسرُّه اثنان: بِنصِره اليسرى، و"حواره" الدَّائم مع آلة الإيقاع.

روني البراك مع الكاتب حبيب يونس

تلكَ الآلةُ الخرساءْ، كما وُصِفَتْ مُذْ خرجَتْ من رَحِمِ الطبيعةْ، مَنْ جعلَها تنطُقْ؟

إِنَّه ذاك الطفلُ الذي لامَسَتْ أصابعُه رقتها، وسألها: ماذا ستخبرينني اليوم يا صديقتي؟...

ومذذاك، وشهرزاد الطبلة لَمَّا تسكتْ عن النَّقر المباح.

أكبرَ من حِضنه الصغير كانت حين قرَّبها إليه، لكنه شعر وحلَم أنهما سيكبران أحدُهما بالآخر، حين يتربعان على مسارح العالم، وتروح الأكف والأجساد والنفوس تتمايل على إيقاعاتهما.

وكان للحلم الطفولي أن يصبح والحقيقة توأمين.

وكانت الطبلة في نظره غابةً عذراء، فغامر ودخلها، ليكتشف آخرَ غصن فيها، حتى باتت طوع أنامله العشر، فما ترك إيقاعًا في الطبيعة إلَّا جعله من ظلالها الوارفة.

كل جماد بين يديه بات يتحرك، ولا يُصدر نقرًا أو إيقاعًا فحسب.

ألا تراه يغزل الأنغام على أصابعه ويُلبس حرائرَ النغم للعين والأذن والروح والدهشة؟

أما حين يتحدث عن معشوقته، فليس بلغة البشر، بل بلغتها هي. وحين يمشي أو يتحرك، كأنه هو الآلة وهي التي تنقر عليه.

هذه الآلة الصغيرة، التي تشبّع من حضورها في الزمان، ضابطةً لإيقاع الحياة، أخذت بيده الى عالم الموسيقى الأرحب، تأليفًا وعزفًا وتوزيعًا ومشاركةً لفرقٍ عالمية ومغنينَ كبار.

وبقي وفيًا لجوهرها. كيف لا وهي تسكنه ومنها ينبثق النغم أو تتجمع المقطوعة باقاتٍ باقات، في جنائن الجمال ومزهريات الفرح وفي أيدي الحِسان عشقًا ومتعة.


اكتشف روني برَّاك مذ لمست أصابعه الطَّريَّة أوَّل طبلة، وهو بعد طفل، أن في بنصره اليسرى عصبًا يشحنها بقوَّة تجعل نقرته على الآلة واضحة وقويَّة... وفريدة. من هنا، ربَّما، ثابر، وحيدًا، على تعلُّم فنون النَّقر والضَّرب على الطَّبلة، متسلِّحًا بهذه الميزة، وراح "يكتشف" الآلة، ليرى أنَّه في "عالم" جديد لا صلة له بـ "العالم" الَّذي يألفه النَّاس عنها. حتَّى إذا أطلَّ، للمرَّة الأولى، على الجمهور العريض، في برنامج "ستوديو الفنّ" عام 1988، وهو في السَّادسة عشرة من عمره، أطلَّ نجمًا: يحتضن الطَّبلة كحبيبة. ليست أصابعه وحدها الَّتي تنقر، بل جسده بكلِّيِّته، وقسمات وجهه، وتعابيره، وإغماضة عينيه، وأحاسيسه الَّتي تشعر أنَّها تخرج منه، لتطوِّق المشاهد أو المستمع وتأسره، راضيًا. "نجم"؟ لم يصدِّق. ولم يكتفِ. لم تغرَّه ميدالية ذهب وإشادات ومدائح... تخطَّاها كلَّها، وعاد إلى "صومعته" يواصل اكتشافاته واختباراته على الطَّبلة، في لبنان ومن ثمَّ في بريطانيا الَّتي لجأ إليها حين اشتدَّت الحرب في وطنه. ودائمًا، حيث عمل، ضابط إيقاع في فرقة، أو مقدِّم عرض وحيدًا، أو مع عازف الكمان الفنَّان عبود عبدالعال، بقيت "الكاريسما" الَّتي يتمتَّع بها مفتاحه إلى قلوب النَّاس. وإلى الطبلة، كان يهوى العزف على البيانو والغيتار الباص، وهو عازف جيِّد على كليهما. وعلى الرَّغم من تميُّزه في النَّقر عليها، تابع دراسته في معهد متخصِّص في بريطانيا، وتعرف إلى أسرار الإيقاعات الأفريقيَّة والأميركيَّة اللَّاتينيَّة والأوروبِّيَّة، وعمل مع فرق في نوادٍ ليليَّة... فزادت ثقته بنفسه، وأكسبته خبرة في التَّعامل مع الجمهور وفي "امتلاك" المسرح، ودفعته إلى آفاق جديدة. آفاق، على ما يقول لي، ترجمها في أسطوانة من تأليفه، عنوانها "أرامبا"، لم تطغَ عليها الإيقاعات، بل عرَّفتنا إلى مؤلِّف موسيقيٍّ ذي شخصيَّة مستقلَّة، غنيَّة بسعة اطِّلاعها على مختلف الفنون، وقادرة على صهرها في نمط خاصٍّ. فروني برَّاك "يحب صوت الأوركسترا الضَّخمة"، خصوصًا حين يكون العازفون مميَّزين، كما هي حال من نفَّذوا معه عمله الأوَّل (وهم في معظمهم بريطانيُّون). وهو يترك لهم حرِّيَّة الارتجال سواء في التَّسجيل في السّتوديو، أو على المسرح، "لأنَّ الفنَّ كلَّه ارتجال وإحساس، وأوامر يطلقها العقل لليد، فيتكوَّن الجوُّ الموسيقيُّ، ويكون ابن ساعته".

وما بالك في مشاركاته مع فرق سمفونية عالمية، في وصلات على الطبلة، تعزف مقطوعات من تأليفه، ولا سيما منها سمفونيته الشهيرة التي قدمت على أكثر من مسرح "بيروت سنسايشن". ... هذا أوَّل جزء من السِّرِّ. وثمَّة ثانٍ هو أنَّ روني برَّاك لا "يعزف" فحسب، بل "أكون في حوار مع آلتي، أسألها: ماذا عندك لتخبريني اليوم"؟ فتجيبه... ويولد حوار تشارك فيه الأحاسيس والتُّراث والارتجال والتَّجارب. "حوار موسيقي، لا يختلف كثيرًا عن الحوار الكلاميِّ، تلفُّه حال عشق ووصال، حتَّى إنَّني لا أعود أرى من حولي، كأنَّني في انخطاف إلى عالم آخر برفقة آلتي". "حوار"... يشاء روني مستقبلًا، على ما يؤكِّد، أن يجسِّده أكَّاديميًّا وعمليًّا. فهو يعدُّ منهجًا لدراسة الضَّرب على الطَّبلة والآلات الإيقاعيَّة الأخرى، يختلف عن المناهج المعروفة بالإتاحة لـ "العازف" أن يستعمل أصابعه جميعًا. ويحضر "فيديو" لتعليم الآلة، ويشارك في "ورش عمل" من أجل تطويرها. ويعمل على فكرة جعل مجموعة الآلات الإيقاعية الَّتي يضرب عليها في حفلاته، أشبه بـ "درامز" تشارك في الضَّرب عليه اليدان والرِّجلان. كشف روني برَّاك سرَّه؟ "ما همَّ ما دام النَّاس سعداء بما أقدِّم، وما دمت أطلق في فضائهم عصفور فرح". حين سُرقت "طبلته الأولى"، أحسَّ أن يده قُطعت، "لأنَّ الطَّبلة صارت جزءًا منِّي... قلها يدي". وهو بشعوره هذا، وبمسيرته ومشاريعه المنتظرة وأحلامه الكثيرة، إنَّما يعمل، ومن دون أن يدري ربَّما، وفق مفهوم أفلاطون للايقاع. مفهوم يرى أن "الإيقاع يصلح فينا ميلًا إلى الخطأ في القياس". أليس هدف روني، على ما يردِّد إخراج آلة الإيقاع من صورتها التَّقليديَّة المرسومة في أذهان النَّاس، إلى آفاق جديدة تناسب نظرتي إلى الموسيقى، ضمن المفهوم العالميِّ لها؟. أوليس في هذا إعادة اعتبار إلى الإيقاع، على أنَّه عفويٌّ تلقائيٌّ في الإنسان، لا نزعة بدائيَّة أو صنو "الطَّقش والفقش والفرفشة"، ليس إلَّا؟.