ميزان المدفوعات (Balance of Payments) هو عبارة عن بيان بجميع المعاملات التي تتمّ بين كيانات دولة مع بقية العالم خلال عامٍ. ويلخّص هذا الحساب كل المعاملات التي يقوم بها الأفراد والشركات والهيئات الحكومية في الدولة مع الأفراد والشركات والهيئات الحكومية التابعة للدول الأخرى. ويُمكن تعريف ميزان المدفوعات على أنّه مُؤشّر يُنبئ بدخول العملة الصعبة إلى البلد أو بخروجها منه. فإذا كان ميزان المدفوعات إيجابياً، فهذا يعني أنّ العملة الصعبة تدخل إلى البلد، أمّا إذا كان سلبياً فهذا يعني أنّ العملة الصعبة تخرج منه.
تُظهر أرقام الدولة اللبنانية أنّ هناك عجزًا مُزمنًا في الميزان التجاري (بمعدّل شهري بقيمة 1.27 مليار دولار أميركي) منذ العام 2011
نصف ميزان المدفوعات يأتي من الحساب الجاري (Current Account) الذي هو عبارة عن حساب تُسجّل فيه معاملات الدولة مع بقية العالم، وبالتحديد صافي تجارتها من السلع والخدمات، وصافي أرباحها من الاستثمارات عبر الحدود، وصافي مدفوعات التحويل خلال سنة. ويشير رصيد الحساب الجاري الإيجابي إلى أنّ الدولة هي مقرض صافٍ لبقية العالم، في حين يشير رصيد الحساب الجاري السلبي إلى أنّها مقترض صافٍ. ويزيد فائض الحساب الجاري من صافي الأصول الأجنبية للدولة بمقدار الفائض، في حين أنّ عجز الحساب الجاري يقلّلها بمقدار العجز.
أمّا النصف الآخر من ميزان المدفوعات، فهو حساب رأس المال الذي يُسجّل الاستثمارات عبر الحدود في الأدوات المالية والتغيرات في إحتياطيات المصرف المركزي.
وبما أنّ الميزان التجاري (Trade Balance أي الصادرات ناقص الواردات) هو أكبر محدّد لفائض الحساب الجاري أو عجزه، واستطرادًا ميزان المدفوعات، فإنّ ميزان الحساب الجاري غالبًا ما يُظهر اتجاهًا دوريًا إذ ترتفع خلال التوسع الاقتصادي أحجام الواردات، وإذا لم تنمُ الصادرات بالمعدل نفسه، فسوف يتسع العجز في الحساب الجاري. وعلى العكس من ذلك، يتقلّص عجز الحساب الجاري، خلال فترة الركود، إذا انخفضت الواردات وزادت الصادرات على الاقتصادات الأخرى.
وتُظهر أرقام الدولة اللبنانية أنّ هناك عجزًا مُزمنًا في الميزان التجاري (بمعدّل شهري بقيمة 1.27 مليار دولار أميركي) منذ العام 2011 (أنظر إلى الرسم النموذجي الرقم 1)، وفي الحساب الجاري (بمعدّل شهري بقيمة 754.7 مليون دولار أميركي) وفي ميزان المدفوعات (بمعدّل شهري بقيمة 205.4 مليون دولار أميركي). أي بحساب بسيط خرج من لبنان من كانون الثاني 2011 حتى كانون الثاني 2024 ما يوازي 32.2 مليار دولار أميركي!
بالطبع هناك طرق تقترحها النظرية الاقتصادية لخفض عجز الحساب الجاري:
- عبر تخفيض قيمة العملة المحليّة: يؤثّر / يتأثّر سعر الصرف بشكل كبير على / بالميزان التجاري، وبالتالي على الحساب الجاري، واستطرادًا على ميزان المدفوعات. فرفع قيمة العملة المحليّة يجعل الواردات أرخص والصادرات أغلى، أي أقلّ قدرة على المنافسة، وهو ما يؤدّي إلى اتساع عجز الحساب الجاري أو خفض الفائض (إذا ما وُجد). وبالعكس، يُعزز تخفيض قيمة العملة المحليّة الصادرات ويجعل الواردات أكثر كلفة، مما يؤدّي إلى رفع الفائض، إذا ما وُجد، أو إلى خفض العجز. بالطبع، يعلم الجميع أنّ العملة كانت ثابتة على مدى عقود، وهو ما يعني أنّ هذه الأداة لم تُستخدم.
- عبر زيادة الرسوم الجمركية على الواردات: وهو ما يعني رفع الكلفة على الواردات مما يُحفّز الصناعة الوطنية والإنتاج الزراعي المحلّي. هذا الأمر يدخل ضمن السياسات الحمائية التي من المفترض أنّها لا تنطبق على الشريكين الأساسيين للبنان – أي الاتحاد الأوروبي والدول العربية – اللذين وقّعا مع لبنان مُعاهدات للتجارة الحرّة، وبالتالي لم يستخدم لبنان هذه الأداة.
- عبر تقوية الماكينة الاقتصادية من خلال استثمارات في القطاعين الزراعي والصناعي بالدرجة الأولى. وهو ما لم يحصل في لبنان حيث أنّ الاستثمارات منذ عدوان تموز 2006 شملت بشكل رئيسي قطاع الخدمات (مثل القطاعين العقاري والسياحي...) الذي تطوّر بشكل كبير. وإذا كانت السياحة تُعتبر نوعًا من التصدير بحكم أنّها تُدخل عملة صعبة إلى البلد، فإنّ الوضعين السياسي والأمني في لبنان لم يسمحا باستغلال كلّ قدرات هذا القطاع. أمّا القطاعان الصناعي والزراعي، فقد بقيا "مُهمّشين" (ولا نبالغ بقولنا هذا) من خلال ملاحظة حجم التصدير مُقارنة بالواردات إذ انخفضت النسبة بينهما من 65% في أواخر الستينيات إلى أقلّ من 20% في بعض الأحيان.
من هذا المُنطلق، يتبدّى أنّ الانهيار كان مُتوقّعًا، أقلّه، على الصعيد العلمي، لأنّ عجزًا مزدوجًا (عجز موازنة وعجز حساب جارٍ) يؤدّي حتمًا إلى الانهيار من باب نقص العملة الصعبة وضعف الماكينة الإقتصادية. الرسم النموذجي الرقم 2 يجمع البيانات التاريخية المسجّلة للبنان منذ ثمانينيات القرن الماضي. مع العلم أنّ تراكم ثلاثة عوامل أساسية هي ضعف الماكينة الاقتصادية، وزيادة الاستدانة الحكومية والفساد المُستشري، ادّت، من دون أدنى شكّ، إلى الحالة التي وصلنا إليها.
ممّا تقدّم، يتبيّن أنّ الحكومات المُتعاقبة لم تهتم بتقوية النشاط الاقتصادي المُتمثّل بماكينة اقتصادية قوية، وتغاضت عن الفساد المُستشري، ولم تحمِ القطاعين الصناعي والزراعي. كما أنّها موّلت كلّ نفقاتها من الاستدانة من الأسواق (القطاع المصرفي اللبناني بالدرجة الأولى) وهو ما أدّى، مع الانتكاسة المالية، إلى الانهيار السريع على الصعيدين الاقتصادي والنقدي بحكم أنّ تغيّرات الأسواق المالية (صعودًا أو نزولًا) هي أسرع من النمو الاقتصادي.
فهل تأخذ الحكومة في الاعتبار هذه المُعطيات وتطرح خطّة واقعية (ليس عناوين عامّة رنّانة فحسب) لتقوية الماكينة الاقتصادية كي تكون الانطلاقة الجديدة على أسس صلبة؟