الْأوف تِسْريبِةْ مَسا عَ مْنابِرُنْ

وِالشِّعْر نَهْر بْيِنْبَع مْن مْحابِرُنْ

وِاللَّيْل ما بْيوعُدْ حَدا بْطَلْعِةْ شَمِسْ

إِلّا نْ وِقِفْ، بِخاطرو، عَ خاطِرُنْ.

بْنَقْرا، صَبيعُنْ عَلَّمو الدَّفّ الْحَكي

وْبِجْواقُن الْمَنْبَرْ تحَوَّلْ مَمْلَكي

وْراس الجَّبَلْ عَ جْبينُن الْعالي تِكي

وْسَهْل الْقَمِحْ عِشْقان مَوْرَجْ بَيْدَرُنْ.

أَهْل الزَّجَلْ أَهْلي... وبَعْرِفْ قِصِّتُنْ

بِصَوْت بَيّي كِنْت إِسْمَعْ غَصِّتُنْ

مِنْ زِغْرتي أَخْدو الدَّهْشي حِصِّتُنْ

وِكْبِرْت إِتْمَنّى سنيني إِزْغَرُنْ.

بْيوت الْعَتابا مْخَدّتي... وْشو الْميجَنا

سْريري الدّافي... وِاللّحاف الرّوزَنا

وْلَمّا الْمعَنّى يْطِلّ غَنّيلو أَنا:

بَيْن الْقَصايِدْ إِنْت أَعْلى وْأَكْبَرُنْ.

وْحِزْن الشّروقي لِعْبتي، وْبَيْت الْقَصيدْ

عَ الْعيد ياخِدْني وْآخِدْلو أَلْف عيدْ

الِمْوَشَّح بْكاسي، الْقِرّادي نبيدْ

نِسْهَرْ سَوا... ويسَكّروني وْسَكِّرُنْ.

***

هذا هو الزَّجل، هؤلاء هم أهله، وهذا هو موسى زغيب.

لا أظن، حين خصّني الكبير سعيد عقل بشهادة لملفّ أعددته لملحق "النهار"، عام 1999، تحوَّل عام 2016 كتابًا، وقال لي "أنا أسمي الزَّجل فن المسايفة بالكلمة"، لم يمرَّ بباله موسى زغيب.

المسايفة عنوان للشرف، والسَّيف تجسيد للمواجهة وجهًا لوجه، لا خنجر للطَّعن في الظهر.

المسايفة هي النبل بذاته، لا ينقص منها أو منه أي مظهر من مظاهر أناقة الفارس، الجلية من جبينه إلى صلابة وقفته، فيما السَّيف في يده، أو في غمده، متأهبًا متوثبًا على خصره.

كان الزَّجل على لسان الراعي أو الفلاح، على لسان قوّال يدعى إلى عرس مثلًا، فإذا التقى قوالًا آخر في ذاك العرس، ورمى له الدفّ، يبدأ التحدي وتكتمل حفلة الزجل. وإذا نُعي القوّال، يرثي في المأتم... إلى أن كانت "جوقة شحرور الوادي"، سنة 1928، وتحول الزَّجل، مذذاك - وصوت المعلم سعيد عقل ما زال يطرق مسمعي - فنًّا من فنون المسرح، وارتفع مع الأيّام ليضاهي فن الأوبرا مَثلًا.

فمريدو الزّجل يدفعون مالًا ليحضروا حفلة زجلية، ويتفاعلون مع شعراء المنبر، ويفضّلون شاعرًا على آخر، ويحفظون أبياتًا - مفاتيحَ يرددُونها في جلساتهم وسهراتهم، وتصبح ملك الذاكرة الجماعية، حِكَمًا أو طرائف أو مواقف رجولة وبطولة.

أما الجوقات الزجلية التي مرَّ موسى زغيب ببعض منها، قبل أن يترأس "جوقة الجبل"، التي خلع عليها اسم مؤسِّسها خليل روكز، بعد وفاته، كانت معموديته الشعرية الحقيقية، وصولًا إلى المرتبة التي بلغها اليوم في الشعر الزجلي.

الشاعر موسى زغيب مع الكاتب حبيب يونس

كثر هم الشعراء الذين عاصرهم موسى زغيب، لكنه بقي وفيًّا للمعلِّم خليل. وكثر هم الذين تبارى وإياهم على المنبر أو ضمَّهم إلى جوقته (التي عُرفت لاحقًا بـ"جوقة القلعة" ورسا هذا الاسم طويلًا في ذهن أهل الزجل ومحبيه)، لكنه لم يبخس حقّ أحد منهم.

موسى زغيب وصل إلى الشعر كبيرًا. منذ يفاعته تحدَّى شاعر العتابا الياس النجار، وانتزع من فم النجار اعترافًا بشاعريته، و"ما كان بعد فرَّخ وبر دقنو"، كما قيل يومذاك.

وموسى زغيب، من ضمن قلة من الشعراء، برع في كل أنواع الزجل.

في "القصيد" هو معلِّم، استهلالًا وختامًا.

في "المعنَّى" خيَّاط معانٍ وقوافٍ، حِرِّيف.

في "القرّادي" اسْأَلوا "زِرّ القَبّي بأرض حبوب المنحبّي".

في "الموشح" لا أرقّ ولا أطرى ولا أسلس ولا أعمق ولا أشجى.

في "العتابا" و"الميجنا"، لا يستهيننَّ به أحد مقارنة بقريبه بطرس ديب.

في "الغزل"... كم من خصرٍ تمنّى لو تمايل على بحة صوته، و"يا ما شمس ما رضيت تكوي شمس"، و"يا ما وقت اللي صار هي بدّا، حمل حالو وفلّ، وهو ما عاد بدّو".

في التحدي "رجّال"، على ما نقول.

في الموقف هو الجرأة.

في اللياقة واللباقة هو الأمير الأمير.

أما "الشّروقي"... الحزين الطابع والأداء، فحوَّله موسى زغيب مسك ختام، وجعل منه لحظة فرح ننتظرها مشغوفين. سرد فيه قصصًا وحكايا ومغامرات، في البيت أو في الطيارة، وغزَل مواعيد، ومشَّط شعرًا جعدًا، وردَّ ستارةً درءًا لعين الجيران، وتملكته الحيرة بين صبية وأمّها البادية أكثر صبًا منها.

ومثلما كان وفيًّا لـ"أبو روكز"، ظل "أبو ربيع" وفيًّا لأصول الزجل وأوزانه وقوالبه، في طقسه المنبري، لكنه أضاف إليها من الفولكلور ألحانًا، ليغني الحفلة الزجلية. فبدَّل الموشح حينًا بـ "هلَّا هلَّا يا جملو"، وأحيانًا بـ"الدَّلعونا"، وأحايين بـ "على الماني ع الماني"، وزاد على التخت الموسيقي آلات تنتظم عزفًا، وما عاد "الردِّيدة" يردّون خلف الشعراء عشوائيًّا، لا بل ضُبطت أصواتهم، كأنهم جوقة إنشاد.

قد يقول قائل: ما جديدك؟ جميع شعراء الزجل هم هكذا. لمَ تميِّز موسى زغيب عنهم إلى هذا الحدّ؟

لا، ليس صحيحًا أن جميع الشعراء هم هكذا. قلة من كانوا مثل موسى زغيب، ولست أنا من يميِّزه. سبق أن قلت إنه وصل إلى الشِّعر كبيرًا ومميزًا. وعرف نفسه كبيرًا ومميزًا، فما نام على مجد ولا تكبَّر على نعمة، ولا سكر بزبيبة. تثقَّف وعاشر كبارًا في المعرفة والعلم والأدب والفنون. وعرف أنه إن لم يجدِّد الصّورة الشعرية في الزجل، يفقد الزجل رونقه. وعرف أيضًا إن شعرًا محكيًّا "فرَّخ" على "كعب" الزجل، فخاض غماره، على طريقته، وقال لأهل الشعر: موسى زغيب يحيِّيكم. كان يلتقط اللُّمع، ويجمع اللّقيات، فيدخلها، بلا وعيه، إلى نسيج القصيدة، أو إلى طقس الحفلة الزجلية.

وساعده، في هذا الإطار، عن غيره، أن أثير الشاشة الصغيرة فتح له سنوات، فكان يقدم كلّ أسبوع حفلة زجل متلفزة، تفرغ الطرق من الناس ساعة عرضها. وساعدته أكثر، كثرة أسفاره إلى الخارج، فربط لبنان المقيم بلبنان المنتشر، و"يا ما سرَّب ع لبنان، وجيبتو ملاني دموع وأشواق". وساعده أكثر، أن جوقته، في غياب الشعراء مجايليه، أو في انكفائهم عن الساحة، أو تراجعهم الإعلامي، استمرَّت إلى المنبر، طويلًا. لا بل أعاد الزَّخم والحياة إلى الزجل، على شاشة "أو تي في" ببرنامج "أوف"، الذي إذا كنا ما زلنا نتابع حفلات زجل، فبفضل خريجيه.

وفي كل الأحوال، وطوال عمره المديد (وقد شارف التسعين)، وأينما حلّ أو أطلّ، ما تنازل مرّة عن حقٍّ، ولا ضعف مرة في مضمون، وما كان إلَّا قبلة نظر.

أعود إلى "أناقة الفارس"... وهي آخر عنصر تميُّز في شخصية موسى زغيب، في هذه العجالة. من يعرفه يقول: يخرج من منزله ملكًا، أنيقًا معطرًا، كأنه يتهيَّأ لعرسه. سيارته ملوكية. محبُّوه الكثر يواكبونه بموكب ملوكي. ما إن يصل إلى مكان الحفلية، مهما كان بعيدًا وشاقًّا، يقام له استقبال ملوكي، ولسان حال المحتفين به "وصل الملك". وحين يعتلي المنبر، حتَّى الدَّف الذي في يده يصيح به من كلِّ نحاساته: "قول يا ملك".

وأما موسى زغيب فلا يرخي ربطة عنقه، ولم أعرف مرة أنه أرخاها، إلا كي يأوي إلى فراشه.

إذًا، هي مشهدية ملوكية، سرُّها في تلك "الكرافات"، لا من أجل المظهر. قطعًا لا. إنما مضمون ملوكي توافق مع طلّة ملوكية... فكان موسى زغيب.

ابن حراجل، القرية الصَّخرة، أخت الزمن العتيق، كلّ زمن آتٍ قليل عليه. وهو أيضًا ابن "الشّروقي"، من بين صنوف الزجل جميعًا، وبـ "الشروقي" أختم، ليليق به الكلام أكثر:

أَهْلا بِرِكْن الزَّجَلْ، وِمْعَلِّم الْأَجْيالْ

مَنْبَرْ الْكِلْمي فِرِحْ، بِالدّفّ وِصْحابو،

وِاللَّيْل خَمْر وْسِكِرْ، بِكِلْمِة الْقِواّل

وِالشِّعْر بِالْمَرْحَبا... مْشَرَّعْلنا بْوابو.

شْروقي وْعَتابا وْحِدا وِمْوَشّح وْمِوّالْ

وْكَسْرِةْ ميجانا إِلا عَ الشِّعْر وِكْتابو

كِلُّن إِجُو يِسْهَرو... وْقِرّادِتُنْ بِالْبالْ

وْبَيْت الْقَصيد نْفَتَحْ يِسْتَقْبِل حْبابو.

بَيْني وبَيْنَكْ شِعِرْ، وِغْلال مَلْوِ سْلالْ

عْناقيد خِطْيو وْبَعِدْ عَ السِّكْر ما تابو

اللَّيْلي الْقَصايِدْ جَبَلْ وِالْمُلْتَقى عِرْزالْ

وْنِحْنَ قَوافي وَفا تَ نِحْرُس عْتابو...