لم يتخيّل اتحاد المصارف العربية، عند إطلاق ملتقى "الأمن الاقتصادي العربي في ظلّ المتغيرات الجيوسياسية" في العام 2022، أن تتبدل الظروف بهذه السرعة، وتزداد التحدّيات تعقيداً. فالعالم كان مقبلاً على مرحلة من النمو الاقتصادي بحسب التوقعات، والاقتصاديات تستعدّ لطيّ مرحلة الجائحة والخروج من التضخم الانكماشي. إلّا انّ التطورات التي حدثت على الصعيد العالمي من بطء في تراجع التضخم أوجب الاستمرار في الفائدة المرتفعة، وتحوّل الحرب على قطاع غزة وجنوب لبنان إلى شبه حرب إقليمية، فرضت نفسها على عناوين ملتقى هذا العام، الذي استضافته العاصمة اللبنانية، بيروت.

على مدى يومين عقد اتحاد المصارف العربية ملتقى "الأمن الاقتصادي العربي في ظل المتغيرات الجيوسياسية" في فندق “فينيسيا” في بيروت. وناقش في جلساته المفتوحة عناوين تتعلق بـ: "تأثير التغيّرات والاضطرابات الجيوسياسية في منطقتنا العربية على القطاعات الاقتصادية والتمويل المصرفي". و"الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية المطلوبة في ظل عدم الاستقرار"، و"الأمن السيبراني وتأثيره على الاقتصاديات العربية". ولم يغب عن المؤتمر تخصيص جلسة لـ "الواقع المصرفي والنقدي في لبنان". وجلسة أخرى لمناقشة "الواقع الاقتصادي في لبنان بعد أربع سنوات ونيف من اندلاع الأزمة".

وحضر المؤتمر الذي عقد برعاية رئيس حكومة تصريف الأعمال في لبنان نجيب ميقاتي، جمعٌ كبير من القادة السياسيين، والديبلوماسيين، والمصرفيين، والماليين، والخبراء، والأكاديميين. ورمى المؤتمر إلى تحقيق "الأمن الاقتصادي والازدهار في دولنا العربية"، بحسب الأمين العام لاتحاد المصارف العربية الدكتور وسام فتوح. والإضاءة على التحديات التي نواجهها، وهي متعددة الأوجه: بدءاً بالتوترات الجيوسياسية الإقليمية والدولية، إلى الفروق الاجتماعية والاقتصادية. ومن التدهور البيئي إلى المخاطر السيبرانية".

المسؤولون اللبنانيون "يعلكون" الأزمة

جمعت الجلسة الافتتاحية، إلى ميقاتي، كلّاً من رئيس مجلس إدارة اتحاد المصارف العربية محمد الاتربي، ورئيس مجلس إدارة الاتحاد الدولي للمصرفيين العرب جوزف طربيه، ورئيس الهيئات الاقتصادية اللبنانية محمد شقير، ورئيس لجنة الاستثمار في اتحاد المصارف العربية الشيخ محمد جراح الصباح، وحاكم مصرف لبنان بالإنابة الدكتور وسيم منصوري. وأظهرت الجلسة بشكل فاضح انفصام المسؤولين اللبنانيين عن الواقع. ففي الوقت الذي ركّزت فيه الكلمات العربية على القضايا الإستراتيجية الكبيرة، استمرّ المسؤولون اللبنانيون في "علك" المطالب نفسها للسنة الرابعة على التوالي للخروج من الانهيار. وقد وضع مشاركون أياديهم على أفواههم لإخفاء ضحكات السخرية، عندما شدد الرئيس ميقاتي في كلمته على ضرورة إعادة هيكلة المصارف وتطبيق الإصلاحات، وفي مقدّمتها "الكابيتال كونترول". وبسهولة يمكن أي خبير في لغة الجسد BODY LANGUAGE قراءة الإشارات التي أراد منصوري إيصالها إلى ميقاتي والسياسيين الحاضرين من النواب والمسؤولين أثناء إلقائه كلمته، التي قوبلت بمحاولة تجنب النظرات والالتهاء بالأحاديث الجانبية.

ولعلّه لم يتمكن أيّ عربي مشارك في المؤتمر سواء كان على المستوى الرسمي أو الشعبي، من فهم إلى من يتوجّه المسؤولون اللبنانيون، عندما يطالبون بالإصلاح. وهذه واحدة من المعجزات اللبنانية العصية على الفهم!

إلى متى يستمرّ شراء الوقت؟

مصرف لبنان بدوره "يستمر من خلال الصلاحيات المعطاة له بحكم القوانين، إرساء حالة من الاستقرار في انتظار الحلول الكبرى التي تتطلّب قرارات جريئة وواضحة من السلطات السياسية"، قال وسيم منصوري. بعبارة أخرى، ما زال "المركزي" يشتري الوقت لسلطة سياسة مجرّبة أثبتت في كل الظروف والحالات عجزها عن إتمام أبسط الاصلاحات. وخلافاً لطريقة شراء الوقت عند الحاكم السابق رياض سلامة، فإنّ ما يميّز سياسة تثبيت سعر الصرف التي ينتهجها المركزي منذ آب 2023 هو "التوقّف عن تمويل الدولة من احتياطيات العملات الأجنبية، والإحجام عن شراء سندات الخزينة بالليرة. وقد نتج من هذه السياسة "استقرار نقدي وعودة المركزي لممارسة عمله الأساسي كأداة وسلطة نقدية"، بحسب منصوري. وذلك من خلال السيطرة على الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية والعمل على توافق عرض النقد مع الطلب وعدم ضخّ الدولار إلّا من خلال الدولة. وساعدت هذه الآلية على زيادة موجودات العملات الأجنبية نحو مليار دولار وتخفيض الكتلة النقدية بالليرة إلى نحو 600 مليون دولار.


لعلّه لم يتمكن أيّ عربي مشارك في المؤتمر سواء كان على المستوى الرسمي أو الشعبي، من فهم إلى من يتوجّه المسؤولون اللبنانيون، عندما يطالبون بالإصلاح.

الإصلاحات المطلوبة

على الرّغم من الاستقرار النقدي، فهو "إنه غير كاف وحده، ولا يمكن بناء اقتصاد سليم من دون خطّة تعاف شاملة برعاية الحكومة اللبنانية تسمح للمودع معرفة مصير وديعته وإعادة هيكلة المصارف"، برأي منصوري. وهو ما يتطلّب تحقيق أربعة عناصر هي:

- المحاسبة من خلال القضاء.

- وضع خطة واضحة لمعالجة أموال المودعين وإعادتها.

- إعادة بناء الاقتصاد من خلال إعادة تفعيل القطاع المصرفي.

- إعادة هيكلة الدولة وبناء أجهزتها.

السياحة وفرص التمويل

بمعزل عن الهمّ اللبناني، فإنّ "الأمن الاقتصادي لا يتعلّق بالاستقرار المالي أو مقاييس النمو فقط" على حد قول الأمين العام لاتحاد المصارف العربية الدكتور وسام فتوح، "فهو يشمل رؤية شاملة تضمن رفاهية مجتمعاتنا وقدرتها على الصمود". وعليه، خُصصت إحدى الجلسات لمناقشة الأمن السياحي العربي.

الأمين العام لـ "المنظمة العربية للسياحة" الوزير السابق شريف فتحي عطية قال لـ"الصفا نيوز" على هامش المؤتمر إنّ"عائدات السياحة تشكّل ما بين 10 و14 في المئة من مداخيل الدول العربية"، لافتاً إلى "أهمية السياحة كونها أحد المصادر الثلاثة الأساسية لإدخال العملة الصعبة إلى اقتصادات الدول العربية". إلّا أنّ السياحة تعاني مشكلتين أساسيتين بحسب عطية:

الأولى، تاريخية تتعلّق بكون المنطقة العربية ساخنة. وكثيراً ما تمرّ بأزمات تبعد الاستثمار السياحي وترفع كلفته. وذلك باستثناء بعض الوجهات مثل المملكة العربية السعودية.

الثانية، انحصار الاستثمار السياحي بالدول والصناديق البينية.

وهذا ما يتطلب من الدول العربية "القيام بما يلزم من إجراءات لضمان الاستثمارات الأجنبية والعمل على نجاحها وجعل المستثمر ينظر إلى الاستثمار كفرصة تعود بعائد مجزٍ"، بحسب عطية. "ولا يمكن استثناء القطاع المصرفي من الدور المحوري والأساسي في دعم السياحة. وهو ما دفع بالمنظمة العربية للسياحة إلى العمل مع اتحاد المصارف العربية على إطلاق منتدى لمناقشة دور البنوك في الإنماء السياحي مستقبلاً وتفعيله، وتحفيز المصارف على الدخول كشريك أساسي في الاستثمار السياحي، والأهم أن يكون في كلّ دولة من يتبنّى هذه السياسات، أي تطبيقها على أرض الواقع.

خلافاً لكلّ ما يشاع عن تأثّر السياحة بشكل كبير في العام 2023، يفيد عطية بأنّ "السياحة نمت بنسبة 23 في المئة خلال العام الماضي. وذلك مقارنة بالعام 2019"، وهو العام الطبيعي قبل اندلاع الجائحة. كما أنّ المنطقة العربية كانت المنطقة الوحيدة التي عادت إلى معدلات أعلى من العام 2019. وهذا يدلّ على أهمية الاستثمار في السياحة ودعمها وتعزيز التعاون معها من أجل ضمان نمو الاقتصادات وضمان رفاهية الشعوب.

يبقى المهم أن تتوصل هذه الفعاليات إلى الاتفاق على كيفية إنشاء اقتصادات شاملة وعادلة لا تترك أحداً خلف الرَّكْب، وذلك كما ذكر بيان الأمم المتحدة في تقريره عن أهداف التنمية المستدامة.