تفتقد السَّاحة الأدبيَّة الثَّقافيَّة منذ تشرين الأول الماضي، قامة بحثيَّة وفكريَّة، وقلمًا ما حاد يومًا عن الحقيقة والصِّدق والموضوعيَّة.

إنَّه الباحث الكاتب، ويمكن القول المؤرِّخ، جان داية، الذي أصيب بجلطة دماغيَّة حدَّت من نشاطه... وهو مذذاك يتعافى، مستقرًّا وضعه، وتحسنه بطيء، على ما أُفِدتُ باطمئناني إليه.

كومة القش تخشاه...

يقضُّ هناءتها، بهدوئه ورقَّة حضوره، وهي تُمضي ما تبقى لها من عمر ممدَّدَة تحت الشمس.

لكنَّ كلَّ إبرة في أي كومة قش، تطمئن في سرها، إلى أن أصابعه لا بد ستشق طريقها إليها، لتجدها.

بذا أختصر جان داية الذي ينضح إناء عينيه بما فيه، من جهد وجِدّ، من رصانة وموضوعية، من بحث بلا كلال أو ملل عن الحقيقة.

ابن الحقيقة هو.

صديق المعرفة.

بحَّار الحبر، شراعه الصِّدق الأقوى من رياح الكذب جميعًا، الأعتى من أنواء الخداع كافَّة، المحلق كما سنونوة، فضاؤها الربيع.

خبَّاز الورق، يُقَمِّرُهُ ليَسْتَطْيِبَ الروحُ مذاقَه، ويتَّسعَ مدى العين... من أشهى لقمة فيه، إلى تاج السنبلة، وكلُّ حبَّة حنطة تتمنى أن تُدفن في معجنه، لتشهدَ قيامتَها على يديه.

هذا هو جان داية قبل أن يدلَّنا إلى جبرانه، قل إلى جبران.

هكذا هو دائمًا، مذ طوَّع القلم وسبق، بالممارسة، جوزيف حرب إلى القول: ألا أيُّها الحبر آمن بثالوثك الخالقِ الخالدِ، فما الشِّعر إلَّا ثلاث أصابعَ في قلم واحد.

والنَّثر النَّثر أخو الشِّعر الشِّعر، وكلاهما من رحم الإبداع.

قلت له، حين استقبلته في برنامجي "نقطة فاصلة"، إنَّ لكلٍّ جبرانَه، ولو أنَّ جبرانَ لم يجئ إلَّا للكلِّ ولم يكن إلَّا للكلِّ.

مئة وواحد وأربعون عامًا على ولادته، وثلاثة وتسعون على غيابه، والفتى البشرَّاوي الوسيم الذي لم يُكتَبْ له من العمر إلا بِضْعُه،

ما زال يرسم بريشة مقصوفة من وادي القديسين، عالَمًا يشبهه.

ما زال يكتب بقلم مقدود من صخر وزهر وجُرأة، عالَمًا لخصه بدمعة وابتسامة،

ما زال يتنقَّل، تائهًا، بين العواصف، مجنونًا، بين البدائع والطرائف، ما زال يسبح في مواكب النفس بأجنحة متكسرة، وبروح متمردة، يقص لعرائس المروج فساتين الكلمات، ويضيِّف الرمل والزبد موسيقى اسمها البحر، ويعود إلى حديقته نبيًّا على صورة آلهة الأرض. 

ختمت احتفالات وفعاليات كثيرة تخص جبران في لبنان والعالم، وما زالت السنون، يومًا بعد يوم، تعيد استيلاد جبران، هذا الحاضر في كل بيت ونفس، المخبوء في رسائل الحميمية، المتربع على عروش المكتبات، العصي على من لا يريد أن يفهم أو يعرف... إلَّا على من مثل جان داية، الباحث، الصَّبور، المجتهد، المجاهد، المدقق، الممحِّص، وعلى ما نقول بالعاميَّة، الذي يفلِّي النَّملة والقملة.

في "لكم جبرانكم ولي جبراني"، نسأل ما الذي يدفع جان داية إلى صرف كل هذا الوقت والجهد، لنبش تفاصيل صغيرة في حياة أديب؟ ولماذا لم يسبَقْه أحد إليها؟

وأي عادة سيئة هذه أن يردد الباحثون ما سبقهم إليه باحثون، ببغائيًّا من دون تدقيق؟

وما الجديد الذي أضافه جان داية إلى ما لا يعرفه، ليس العامة فحسب، إنما أيضًا المتخصصون بجبران؟

متى انتسب جبران إلى مدرسة الحكمة، وكم سنة مكث فيها؟

هل كتب في صحيفة "الهدى" النيويوركية، أم اقتصرت مشاركته فيها على مقالتين ليس إلَّا؟

أين نشر مقاله الأول؟ 

لِمَ نشر مقالات زاوية "دمعة وابتسامة" في كتاب؟

هل عمل دليلًا سياحيًّا لعائلة أميركية في لبنان؟

متى أنشئت الرابطة القلمية، ومن هم مؤسسوها؟

من هي الجنية الساحرة؟

ما علاقته بالسَّيدة الثرية هيلانة غسطين؟

كم مرة تزوجت أمه كاملة؟

لماذا يصوَّر جبران دائمًا جديًّا حزينًا متجهمًا، وهو ما هو عليه من ظرف وفكاهة ومرح، ألم يكن مدخِّنًا شرهًا و"حبِّيبَ" سهر وكأس عرق؟

وما بالك بجبران خطيبًا ترتعد المنابر لوقفته، وإذ يسترسل في الكلام، تروح ترقص وتطرب.

وهل تسنَّى له الوقت لتدبيج مئات الرسائل... هو الغزير الإنتاج والكثيف الحضور؟ وماذا تضيف تلك الرسائل إلى ما لا نعرفه عن أدبه وشخصيته؟

وهل يسمح لأي كان أن يُعمل في نص جبراني مكتوب من عشرات السنين، تعديلًا أو تحريفًا، خدمة لتوجه سياسي، من "لبننة قوميَّته إلى مورنة علمانيَّته"؟

وإذا كان جبران جبرانًا، فلماذا يريده البعض جبرانًا على صورتهم هم، وعلى مثالهم هم؟ حتى عمَّموه على ذينك المثال والصورة، إلى أن انتشل جان داية الإبرة من كومة القش، ورفأ بها ثوب الحقيقة الممزق والمشوه.

وفي الكتاب واحد وخمسون نصًّا مجهولًا لجبران، وغدًا قد نعثر على نصوص جديدة مجهولة، فلماذا تبقى مجهولة نصوص لأديب كبير ملأ من الشرق والغرب، كثيرهما؟

حسب جان داية، في "لكم جبرانكم ولي جبراني" أنه يستكمل ذاته، في البحث عن الحقيقة، تمحيصًا وتدقيقًا، من كتاب "نشوء الأمم" للزعيم أنطون سعادة، وسِيَر الكواكبي وجبران تويني الجدّ وسعيد تقي الدين، إلى عشرات المقالات المتفرقة في هذا المجال؟

ماذا حقق؟ وهل تستأهل الحقيقة كل هذا الجهد؟

حسبه أنه حرٌّ، وأن الحرَّ لا يحيا على الأكاذيب، إنما على الصدق.

أيها الصدق... هنيئة لك صداقتك لمن صدق الحقيقة، فصدَّقته.