يُعامَل موظفو البلديات في لبنان كأنّهم "البطّة السوداء" مقارنةً بـ"بطّات" القطاع العام الصفراء. يُحرمون من الزيادات القديمة والجديدة التي أُقرّت على الرّواتب، لا يحصلون على بدلات النقل، ولا على الضمانات الاستشفائية والتعليمية. هذا الواقع الممتدة جذوره إلى ما قبل الانهيار، توسّع مع تقويض الموارد المالية للبلديات، وبدأ يهدّد بانحلال كلّي في الإدارات اللامركزية التي أشبه ما يكون تكوينها للجمهوريات الصغيرة. خصوصاً إذا نفّذ الموظّفون تهديدهم بالإضراب العام ابتداء من 8 أيار المقبل، في حال عدم الاستجابة لمطالبهم. 

في 28 شباط الماضي، أقرّ مجلس الوزراء المرسوم 13020، الذي نصّ على إعطاء بدلات تعويض مؤقّت لجميع العاملين في القطاع العام والمتقاعدين، ومن ضمنهم موظفو البلديات. إلّا أنّ المرسوم عاد و"فخّخ" الزيادات للفئة الأخيرة، بعبارة مفادها: "إذا توفّرت الاعتمادات في البلديات". وبما أنّ البلديات "مفلسة"، فإنّ أيّاً من موظّفيها لم ينل راتبه مضاعفاً 9 مرّات كما ينصّ المرسوم. كذلك لم يحصل الموظفون على بدلات النقل المحدّد بـ 8 إلى 16 صفيحة بنزين شهرياً، وبمعدّل 14 يوم عمل أقلّه. حتّى إنّ الكثير من البلديات ما زالت تدفع 64 ألف ليرة بدل نقل يومياً، أي حوالى مليون و280 الفاً شهرياً. ذلك مع العلم أنّ بدل النقل يجب ألّا يقلّ، بحسب المرسوم، عن 14 مليون ليرة (8 صفائح على سعر مليون و781 ألف ليرة حالياً). وينقل أحد الموظّفين عن رئيسه "الظريف" قوله "يكفيك المبلغ بدل نعل"، أي تغيير حذاء، كون الموظف يسكن على مقربة من مكان العمل، ويمكنه أن يأتي مشياً.  

إفلاس البلديات 

هذا الواقع هبط برواتب موظّفي أغلبية البلديات إلى نحو 5 ملايين ليرة شهرياً، لا تساوي أكثر من 55 دولاراً بحسب سعر صرف السوق. "ومن شبه المستحيل على البلديات في ظلّ هذه الظروف، زيادة مواردها المالية لرفع الرواتب والتقديمات"، بحسب عضو "تجمع موظفي البلديات واتحاداتها في لبنان"، وجدي التقي. وهذه هي الأسباب: 

- الاعتمادات المرصودة في موازنات البلديات ورقية، ولا تقابلها أيّ تغطية مالية فعلية.  
- تخلّف الدولة عن سداد مستحقّات البلديات من الصندوق البلدي المستقل منذ العام 2022. والمبالغ المرصودة فقدت قيمتها الشرائية نتيجة تدهور سعر الصرف في العامين المنصرمين. فهي ما زالت مقيّمة على أساس سعر صرف 1500 ليرة للدولار. وللمثال، تبلغ حصة بلدية راشيا من الصندوق 770 مليون ليرة، لا تساوي أكثر من 8500 دولار، ستقسم على العامين 2022 و 2023 والعام الحالي. وستوزّع على الرواتب والنفقات التشغيلية والمازوت والأشغال وغيرها الكثير من المتطلّبات.  
- اقتطاع وزارة الداخلية من عائدات الصندوق البلدي المستقلّ لتمويل نفقات إنشاء المطامر. الأمر الذي يقلّص العائدات.  
- تعمّد موازنة 2024 رفع رسم الطابع المالي، وإبقاء العائد منه للبلديات كما هو. فإعطاء إفادة من البلدية يستوجب وضع طابع مالي بقيمة 20 ألف ليرة، وإصدار إيصال مالي بقيمة 100 ألف ليرة. وكلّ ما تحصل عليه البلدية من الإفادة هو مبلغ 2000 ليرة لا غير.  
- قطع الطريق أمام الاستحصال على سلف الخزينة التي أجازها المرسوم إذ لم تتلقّ أيّ بلدية الجواب عن طلبها للاستحصال على سلفة خزينة.  
تقلّص عوائد الرسوم من القيمة التأجيرية بشكل كبير جداً، وذلك بالرغم من رفعها في موازنة 2024 بين 10 أضعاف على الأماكن السكنية، و20 ضعفاً على الأماكن غير السكنية. فرسم القيمة التأجيرية الذي كان محدّداً بـ 60 ألف ليرة على المسكن، قبل الانهيار، يعادل 40 دولاراً، رفع إلى 600 ألف ليرة في العام 2024، وتدنّت قيمته بالدولار إلى نحو 6 دولارات فقط. 

الموظفون ورؤساء البلديات في مواجهة مباشرة  


المعوّقات التقنية البالغة التعقيد والصعوبة لتأمين الأموال، "تبقى أهون بأشواط من تنحّي الدولة عن مسؤوليتها المعنوية، إضافة إلى المادية، ووضع الموظفين في مواجهة مباشرة مع رؤساء البلديات"، يقول التّقي. وهذا ما يسبّب في بعض الأحيان الكثير من المشكلات والحساسيات، خصوصاً في القرى الصغيرة. ويدفع بالموظفين أحياناً إلى القبول بالأمر الواقع وعدم رفع الصوت عالياً والاحتجاج بداعي الخجل أو التعاطف مع المجتمع المحلي. فـ "من نخدمهم هم أهلنا في نهاية المطاف"، يقول التقي. "ولكن سنصل إلى وقت على أهلنا أن يعذرونا، لأننا فقدنا القدرة على التحمّل".  

الحرمان من التقديمات الاجتماعية 


إضافة إلى كلّ المشكلات المادية، ما زال موظفو البلديات غير مشمولين بأيّ نوع من أنواع التغطية الاجتماعية، فهم لا يُسجّلون في تعاونية موظّفي الدولة على غرار الموظّفين والأساتذة والمعلّمين، ولا ينتسبون إلى الضمان الاجتماعي، كما أنّهم ما زالوا محرومين من إمكان الحصول على معاش تقاعدي، عدا أن تعويضهم يحتسب على أساس الراتب القديم ولا يتجاوز الألف دولار في أحسن الأحوال.  

إزاء هذا الواقع يطالب تجمّع الموظفين الدولة بما يلي:  

- تعديل القانون المالي للبلديات وإلغاء الصندوق البلدي المستقلّ وضم البلديات إلى وزارة المال.  
- إصدار قانون من مجلس النواب بعدم إخضاع الموظّفين لتعويض الصرف من الخدمة، بل لنظام تقاعدي تابع لتعاونية موظفي الدولة للمثبّتين بفي لملاك، في حين يخضع غير المثبّتين لقانون العمل ويلحقون بصندوق الضمان.  
- إنشاء مديرية موحدة للشرطة والحرس لبلديات لبنان. 
- مطالبة الحكومة عند إصدار أيّ مراسيم بحقّ المؤسسات العامة والبلديات تسمية الموظفين بالإسم ومنحهم كلّ ما يعطى لموظّفي الإدارة العامّة. لأنّه يحتاج كلّ مرسوم يخصّ البلديات إلى ايضاح وتفسير واستشارات وتعديل متى كان مبهماً. 
- شمول الموظفين بنظام المثابرة أسوة بموظّفي القطاع العام.  

التفكير من خارج الصندوق  

المطالب المحقّة للموظّفين تصطدم بعجز السلطة عن تنظيم انتخابات للبلديات من أجل ضخ الدماء الجديدة في عروقها. فما بالنا بمطالبتها بإجراءات جدية ورؤية مستقبلية ومراسيم وقوانين ترفع الظلم عن نحو 15 ألف عائلة تعاني غالبيتها الفقر المدقع. وعليه، فإنّ البلديات المزمع انتخابها عاجلاً أم آجلاً، وتلك التي ما زالت تستطيع أن تلتقط أنفاسها، مطالبة بالتفكير من خارج الصندوق لرفد صناديقها بالموارد المالية. وبالتالي، تحسين ظروف موظّفيها تلقائياً. وبإمكان البلديات التعاون مع المجتمع المحلّي والمؤسسات وأصحاب الرؤى من المبادرين للاستفادة من مشاعاتها وأراضيها وقدراتها لإقامة المشاريع التنموية والسياحية والخدماتية، والتشارك في تأمين الكهرباء من خلال مصادر الطاقة المتجددة، وإيجاد حلّ لمشكلات معالجة النفايات... وهي كلّها مبادرات تسهم في رفد البلديات بالأموال من جهة، وتوفير الكثير من النفقات من جهة ثانية. وهذا ما يحقّق الوفر المادي ويسمح لها بانتشال "البطة السوداء" من مهزلتها وتعليمها الطيران. إضافة إلى القيام بدورها في المجتمعات التي أصبحت بأمسّ الحاجة إلى بلديات قادرة وفاعلة.