خالفت الأزمة اللبنانية المعقّدة منذ بدايتها الكثير من التوقّعات والافتراضات. فالسقوط المدوّي لقدرة الأجور الشرائية، واحتجاز الودائع المصرفية، وجاذبية التضخّم، ثلاثة عوامل دفعت إلى الاعتقاد بانهيار التعليم الخاص. كثيرون ممن جلسوا خلال السنوات الماضية على ضفّة "نهر" النزوح المتوقّع باتجاه المدارس الرسمية، صُدموا بالنتائج. فالتلامذة كانوا "يتقافزون" مثل "سمك السلمون" عكس "تيار" الفقر القوي، باتجاه المدارس الخاصة. ساعد على ذلك تراجع قيمة الأقساط المقوّمة بالدولار بدايةً، وكثرة الاضرابات في القطاع العام، وتواطؤ خبيث بين الدولة والمسؤولين عن القطاع. فهل يستمرّ هذا الواقع لموسم 2024/2025؟

لم يصدّق أحد أولياء الطلّاب ما رأته عيناه عندما لبّى نداء ضرورة الحضور لتسجيل ولدَيْه للعام المقبل تحت طائلة "نفاد الأماكن". القسط الجديد بالدولار النقدي مضاعفاً مرّتين عن الولد الواحد. وإذا ما أضيفت الزيادة الجديدة إلى الزيادة بمقدار الضعْفَيْن المقرّة عن العام الدراسي الحالي، يعود القسط ليشكّل ما بين 70 و80 في المئة ممّا كان عليه قبل الانهيار. تخيّل الوالد الرقم المسجل في "قسيمة قبض راتبه" السنوية، وقسّم دخله سريعاً على تسعة أشهر، وهي المدّة المتاحة لتقسيط المبلغ للمدرسة، فتبيّن أنّ كل ما سيتبقى بحوزته في الشهر هو 100 دولار. فقرر سريعاً نقل ولديه إلى مدرسة رسمية.

الدولة تفرمل النزوح من المدارس الخاصّة

حكاية هذا الوالد الذي يعمل في القطاع الخاص لن تتقاطع هذا العام مع الكثير من الحكايات المشابهة، ولو أنّ متوسط الزيادة على الأقساط لهذا العام الذي سجّله "اتحاد لجان الأهل وأولياء الأمور في المدارس الخاصّة في لبنان"، "يبلغ: 50 في المئة". والسبب "إقرار الدولة منحة تعليمية لموظّفي القطاع العام بقيمة 2000 دولار عن الولد الواحد"، بحسب رئيسة الاتحاد لمى الطويل. وإذا افترضنا أن 30 إلى 40 في المئة من تلامذة المدارس الخاصة هم أبناء موظّفين في القطاع العام، وتقاضي موظفي القطاع الخاص جزءاً غير مصرّح عنه من رواتبهم بالدولار، فإنّ المدارس الخاصة المتوسطة الأقساط ستحافظ هذا العام على الأعداد نفسها تقريباً. وعليه، ستبقى "تتلاعب" بالأقساط من دون حسيب أو رقيب، وترتكب "مخالفة واضحة وصريحة للقوانين المرعيّة الإجراء"، بحسب الطويل.

المخالفات في تحديد الأقساط مسبقاً؟

ما تقوم به المدارس من تحديد مسبق للأقساط عن العام الدراسي المقبل مخالف للمنطق والقانون. فالأقساط تتحدّد مع بداية الفصل الأول من العام الدراسي. وذلك من بعد تحديد النفقات الحقيقية، وتقسيمها على أعداد التلامذة المسجّلين. والأغرب أنّ "المدارس تحدّد أقساطها قبل إنجاز قطع الحساب العائد إلى العام الماضي، والذي على أساسه تبنى قيمة الموازنة التي يجب أن تدرسها لجنة الأهل في المدرسة خلال الفصل الأول من العام المقبل، وتحديد القسط"، تقول الطويل. "حتّى أنّ رسم التسجيل الذي بدأت المدارس بتقاضيه غير واقعي، لأنّ قيمته يجب أن تعادل 10 في المئة من قيمة قسط العام الماضي. ويسدّد الأهل القسط الأول بما يعادل 30 في المئة من قيمة قسط السنة الماضية. وبعد الفصل الأول ودراسة الموازنة، يتبيّن قيمة القسط الثاني والقسط الثالث".

هذه الآلية القانونية والطبيعية التي تحكم آلية تحديد الأقساط، لا يُعمل بها في المدارس الخاصة التي أنشأت صندوقاً للدولار لا يتمّ التصريح عنه للجان الأهل. وهذا ليس مخالفاً للقانون فقط، لأن لجنة الأهل لجنة رقابية مسؤولة عن تحديد القسط، إنّما هو عمل "مشبوه أيضاً"، من وجهة نظر الطويل، "إذ من غير المعلوم كيف تتصرّف إدارات المدارس بالأموال، وما إذا كانت تصل حقاً، كما تدّعي، إلى الأساتذة والمعلّمين". وبرأيها "يجب أن يدخل القسط بالدولار من ضمن الموازنة المدرسية لكي يتمّ التدقيق به أولاً، ومن أجل ضمان حقوق الأساتذة ورفع قيمة رواتبهم التقاعدية التي ما زالت تحتسب على أساس مساهمات المدارس بنسبة 6 في المئة من المداخيل بالليرة".

غياب المحاسبة

ما يحصل حالياً في قطاع التعليم الخاص عبارة عن فوضى بعيدة عن المراقبة والمحاسبة. وذلك على الرّغم من تصريح المدير العام للتعليم الخاص عماد الأشقر أنّ "جميع موازنات المدارس الخاصة هي غير قانونية". لكن لم يُتخذ أيّ إجراء بحقّ هذه المدارس. أكثر من ذلك فقد أدّى إقرار الدولة المنح التعليمية لموظفي القطاع العام بقيمة 2000 دولار عن الولد الواحد إلى "تشريع رفع الأقساط"، بحسب الطويل، "وكأنّ الدولة تقول للمدارس الخاصة أن تضع الأقساط بناء على هذا الرقم. وهذا لا يؤدي إلى تحميل الأهل العاملين في القطاع الخاص المزيد من التكاليف والأعباء، إنّما أيضاً إلى ضرب المدرسة الرسمية والتعليم العام". فأيّ دولة في العالم تقدّم منحة مدرسية لموظّف في القطاع العام لكي يضع أولاده في القطاع الخاص، إلّا في لبنان! هذه المُنح هي "من عب" المسدّدين للدولة "إلى جيوب" السياسيين المتحكّمين فيها، والذين يملكون المدارس الخاصة. والأكيد أنّ هذا الواقع لن ينعش القطاع الرسمي ولن يشجّع على التعليم العام.

الأقساط لا تنعكس زيادة في التقديمات

الدليل على عدم استفادة الأساتذة في التعليم الخاص من الزيادات يتبدّى جليّاً في إصرار المدارس الخاصة على عدم تسديد أكثر من 6 في المئة من رواتب الأساتذة بالليرة إلى صندوق تعويضات أفراد الهيئة التعليمية في المدارس الخاصة. وهذه النسبة ما زالت تقتطع من رواتب تراوح بين المليون والأربعة ملايين، من دون أن تشمل ما يعطى بالدولار. وهو ما حرم الأساتذة المتعاقدين من أبسط مقومات الحياة، وبدأ يهدّد جدياً بتعطيل عمل الصندوق، والدفع به نحو "التحلل والاندثار"، بحسب نقيب المعلمين في المدارس الخاصة، وعضو مجلس إدارة الصندوق نعمه محفوض. "فكلّ واردات الصندوق لا تكفي بدل الخدمات اللوجستية التي يقدمها والتكاليف التشغيلية، من رواتب الموظفين، التي ما زالت متدنية جداً، وكلفة المياه والكهرباء، وخدمات المبنى، والقرطاسية، وبدل الصيانة، والأنترنت، والمدقّقين الخارجي والداخلي". وهو ما دفع الموظفين إلى إعلان الاضراب التحذيري أمس، والأول من أمس، نظراً إلى تدني رواتبهم. "ومن غير الممكن زيادة رواتب الموظفين، قبل زيادة المعاشات التقاعدية التي يتقاضاها الأساتذة"، بحسب محفوض، "وإلّا تحوّلت كلّ الموارد لخدمة الموظفين وللوجستيات، وليس المعلمين". والحلّ يبقى بإقرار مجلس شورى الدولة النهائي للطعن بعدم جواز ردّ رئيس الحكومة قانون تعديل النسب الواجب اقتطاعها بالليرة والدولار لمصلحة الصندوق المقرّ في البرلمان. وبالتالي، التزام المدارس دفع نسبة 6 في المئة عن مجمل الأجر الذي يتقاضاه الأساتذة، وهذا ما يسهم في عودة الحياة إلى الصندوق.