لن أدعَ الذِّكرى التاسعة والأربعين للحرب على لبنان، في 13 نيسان 1975، تمرُّ، من دون أن أتذكَّر وأتقاسم العبر، مع أجيالٍ سمعت عنها أو قرأت، ولكن لم تعش أيَّ لحظة من مآسيها... فعسى تلك الحرب، "لا تنذكر ولا تنعاد"، وعسى من يقرأ القصة أدناه، يعتبر، ليس إلَّا.

مذ انتهت الحرب، عام 1990، على ما يشيعون، بقي طيف استرجاعها قائمًا. رؤوس حامية تقتات من أشلاء وبارود. عنتريَّات يظنُّ كثر أنَّهم أبطال حقيقيون إذا أدّوها بصوت عالٍ. مصالح ارتدَّت على أمراء الحرب، مالًا وافرًا وغنى فاحشًا، يصعب عليهم التخلِّي عنها، في سهولة.

ثمَّة من يقدر على الحرب، ولا يريدها، وثمَّة من يريدها ولا يقدر عليها.

كثيرة هي الشعوب والأوطان التي جعلت من الحروب على أرضها، أرضًا خصبة للإبداع في مجالات الفنون كافَّة. وكثيرة هي أيضًا تجاربها وخلاصاتها وعبرها التي تحولت إرثًا ثقافيًّا إنسانيًّا وجدانيًّا.

هلَّا راجع جميع أفرقاء الحرب، مواقفهم وضمائرهم؟ أظنُّ أن لا.

لمَ نستعيد ذكرى الحرب، بالنَّفخ في نارها لتأجيجها؟

ولمَ نطلق أبواق الفتنة تزعق وترغي وتزبد؟

ولمَ نحيي أحقادًا دُفنت، على ما اتُّفق يوم حلَّ "سلام الطائف" بيننا؟

لمَ لا نحيي ذكرى الحرب بأعمالٍ ثقافية إنسانية وجدانية، ولو على هيكلِ "بوسطة" تقلُّنا من حملايا إلى تنورين، تؤكّد أنّ الرؤوسَ الحامية بردت، وأنّ ذاك "العوسج" أنبت "تينًا"؟

لمَ لا نحيي ذكرى الحرب بأعمالٍ ثقافية إنسانية وجدانية، ولو على هيكلِ "بوسطة" تقلُّنا من حملايا إلى تنورين، تؤكّد أنّ الرؤوسَ الحامية بردت، وأنّ ذاك "العوسج" أنبت "تينًا"؟

قصَّة برسم الرؤوس الحامية:   

"... وَسقطتِ الكَرَنْتينا". لم يُنبئْ صوتُ المذيعِ بما لم يكنْ منتَظَرًا، بينَ لحظةٍ وأخرى. لكنَّ نبرةَ صوتِه الواثقةَ ونشوةَ الفرحِ الَّتي غلَّفَتها، أخرجَتا كثرًا إلى الشَّوارعِ للاحتفالِ بانتصارٍ في معركةٍ، أجبرَتهم طويلًا على الرُّكونِ في زوايا المنازلِ أوِ النَّوم في رطوبةِ الملاجئِ، وعطَّلَت أعمالَهم، وَأفقدَتهم قريبًا أوْ جارًا أوْ عزيزًا.

وَلمْ يُثنِهم عن الاحتفالِ صقيعُ كانونَ الثاني الذي بمقدارِ ما نزلَ ثلجًا في قلوبِهم، أدخلَ دفءَ أمانٍ نسبيٍ إلى حرّيةِ تنقُّلِهم، وَلا زخّاتُ مطرِه التي غسلَتِ الأرضَ وَمسحَت غُبارًا مأسويًّا عنْ وقائعِ حياتِهم، وَاختلطَت بزخّاتٍ منْ رصاصِ الابتهاج.

الاحتفالُ هذا كانَ تتويجًا ملموسًا لحكاياتٍ وأخبارٍ يرويها مقاتلونَ عائدونَ منْ جبهاتٍ كثيرةٍ، في سهراتِ البيوتِ التي تحوَّلوا ضيوفَها بامتياز. حكاياتٌ كانَ يمكنُ أنْ تكونَ نسجَ خيالٍ، لوْ لمْ تقترنْ أحيانًا بشواهدَ وإِثباتاتٍ حيَّة. وَها هوَ غسّانُ الذي ذاعَ صيتُه، في الحيِّ وَالمنطقةِ، مقاتلًا مدجَّجًا دائمًا بالقنابلِ اليدويَّةِ والسِّلاحِ المتوسِّطِ، ينضمُّ، بثيابِه المتَّسخةِ وَلحيتِه غيرِ المشذَّبةِ، كما لَمْ نعتدْها، إلى رفاقِه في منزلِ صديقي جورج، وَقدْ تدلَّى منْ عنقِه "عِقدُ" آذانٍ "غنمَها" - قالَ - عندَما واجهَ على رأسِ رهطٍ مقاتلينَ، مجموعةَ "مرتزقةٍ صوماليِّين" حاولَتِ التَّقدُّمَ مرَّاتٍ نحو متراسِهم، "فأفنَينا أفرادَها عنْ بكرةِ أبيهِم، ولمعَتِ الفكرةُ في رأسِ أحدِ الرِّفاقِ، فقطعَ وإيّاهم آذانَهم وجعلوها عقدًا، أُهديتُه مكافأةً لنجاحي في قيادتِهم"... ودلَّ غسّانُ إِلى صدرِه.

آذانٌ بشريَّةٌ، بدتْ نظيفةً لا أثرَ لدمٍ عليْها، ولا شرايينَ ناتئةً، وليستْ كلُّها سودًا، لكنَّ روايةَ غسّانَ، وإن مقزِّزةً وأسطوريَّةً، لا تقبلُ التَّشكيكَ، وسطَ جوِّ الحماسةِ السّائدِ، ورواياتٍ عن شجاعتِه وإِقدامِه اللذين أدَّيا، بعد أشهرٍ إِلى استشهادِه في تلِّ الزَّعتر.

مشهدُ غسّانَ بعقدِ الآذانِ، لمْ يفارقْنا، أنا وجورج، في طريقنا، سيرًا من الدَّورةِ إِلى الكرنتينا، لنشهدَ، يافعَين، ما معنى تحريرِ أرضٍ أوْ موقعٍ، بعدَ ثلاثةِ أيّامٍ على إنجازِه. آثارُ الدَّمارِ كانَتْ رفيقتَنا، طولَ الطَّريقِ، والكُوى التي أحدثَتْها "قذائفُهم" في منازلِ أهلِنا وجيرانِنا، تبتسمُ للمارَّةِ، وتعلنُ نهايةَ الحربِ، كما شَهِدَها موتى أفلاطونَ وحدَهم.

أطلَّتْ عليْنا أوَّلُ شجرةٍ من صَفِّ أشجارِ الكينا التي كانَتْ "تحرسُ" الكرنتينا والمسلخ. وراحَت رفيقاتُها التي كَسَتْ أوراقَها وأغصانَها وجذوعَها، وحولٌ خلَّفَها امتزاجُ المطرِ بالغبارِ، تتعرَّفُ إِليْنا، نحنُ اللذيْنِ كنّا ورفاقًا آخرينَ، نلتقي في فيئِها لننطلقَ من هناكَ، إلى ساحةِ البرجِ أوْ شارعِ الحمراءِ، كلَّ يومِ جمعة - عطلتِنا المدرسيَّةِ - لنشاهدَ فيلمَ سينما.

وقبلَ أنْ نشرفَ على الرُّقعةِ المحرَّرةِ، تناهَتْ إلى مسامعِنا أصواتُ آلاتٍ، دباباتٍ أوْ مجنزراتٍ أوْ ناقلاتِ جُندٍ، تتَّجهُ إِلى مكانٍ ما. لكنَّها، ما إِنْ أطلَلْنا على الموقعِ، كانَتْ جرّافاتٌ ورافعاتٌ ضخمةٌ، تزيلُ الرُّكامَ الكثيرَ ومنازلَ الصَّفيح.

وبدَتْ عليْنا منْ بعيدٍ، مساحةٌ قربَ البحرِ سُوِّيَتْ بالأرضِ بعدَما مرَّتْ عليْها المحادلُ، لتجعلَها أقربَ إِلى موقفِ سيّارات. مساحةٌ صارَتْ عليْها رقعةُ الكرنتينا، في معظمِها، لاحقًا. ووسْطَ الضَّجيجِ والغبارِ الكثيفِ، لَمْ نميِّزْ تفاصيلَ كثيرةً في ورشةِ العملِ القائمةِ، إِلى أنْ جذبَنا تحديقُ مجموعةِ كهولٍ، قربَنا، في مكانٍ واحدٍ، يشيرونَ إِليْه بأصابعِهم.

التَفَتْنا، إِلى حيثُ يركِّزونَ، وهوَ نقطةٌ قريبةٌ مِنَّا، فإِذا بجرّافةٍ يقودُها شابٌّ لم يظهرْ منْه، في قمرتِها، سوى سترةِ قتالٍ خضراءَ كانَ يرتديها، ولحيةٍ كثَّة سوداءَ طويلةٍ، وقلنسوةٍ صوفًا. كانَ يمضغُ شيئًا ما، ويبتسمُ حينًا ويضحكُ أحيانًا، كأنَّه يكشحُ ببياضِ أسنانِه، سوادَ ذاكَ المشهدِ الرَّهيب.

جثثُ رجالٍ، عشرونَ هُمْ، ثلاثونَ، أربعونَ - ما همّ العدد؟ - مكومةٌ بعضًا على بعضٍ، سودٌ مفحَّمةٌ، بدتْ لنا، أنا وجورج، في تعليقٍ بدَهيٍّ، أشبهَ بفراريجَ معدَّةٍ للبيع. عظامٌ ناتئةٌ من أسفلِ السّيقان. أيدٍ كأنَّ أصابعَها حطبٌ قربَ موقدة. محاجرُ؟ قلْ كهوفًا لَمْ يجرؤِ الإنسانُ الأوَّلُ على دخولِها. وقربَ الكومةِ، كانَ السَّائقُ أنجزَ حفرةً كبيرةً، فأدارَ شفرةَ الجرّافةِ وغرزَها في تلَّةِ الجثثِ، ملأَها بعددٍ منْها، وهوَ ما بينَ ابتسامةٍ وضحكةٍ، ودارَ يمينًا، ورماها في الحفرة.

كرَّرَ ذلكَ، لمْ أعُدْ أذكرُ، ثلاثًا، أربعًا ... عشرًا، وهوَ ما بينَ ابتسامةٍ وضحكةٍ، كأنَّه في ورشةِ بناءٍ، وكأنَّنا أنا وجورج، بينَ دهشةٍ واشمئزازٍ، عيونُنا تتحرَّكُ على إيقاعِ الجرَّافةِ، ندفنُ بعضَ ذاكَ الانتصارِ، وبعضَ تلكَ الفرحةِ بالتَّحرير.

ربعَ ساعةٍ، نصفَ ساعةٍ، لمْ تعدْ للزَّمن قيمةٌ، كما الإنسان، اختفَتْ كومةُ الجثثِ، وغارَتْ في الحفرةِ الكبيرةِ، من دونِ أن تظهرَ يدٌ واحدةٌ منْها كانَتْ تريدُ أنْ تلوِّحَ وداعًا، ربّما، لأيٍّ كانَ، ومن دونِ أن تسمحَ لها جرَّافةٌ أخرى كانَتْ تهيلُ التُّرابَ والحصى عليْها، بأنْ تحتجَّ أوْ تعترض.

حتَّى حانَ دورُ المحدلةِ الَّتي مهَّدَتِ الأرضَ، وضربَتْ كفًّا بكفٍّ، وتوجَّهَتْ إِلى مكانٍ آخرَ في الورشةِ، كأنَّ شيئًا لمْ يكن. (دللتُ إلى ذاك المكان في أكثر من إطلالة إعلاميَّة وفي ندوات وأنشطة تعنى بشؤون المخفيين قسرًا... ولا حياة لمن تنادي).

افتقدْتُ جورج... كنَّا تواعَدْنا على الذَّهابِ معًا لنتناولَ طعامَ الغداءِ إِلى مائدةِ جانو في الجديدةِ ونُمضي بعدَه وقتًا في الشِّعرِ والموسيقى. مررْتُ به، فلمْ أجِدْهُ. سرْتُ وحدي، أقولُ لعلَّه سبقَني إِلى هناك. خُطاي كانَتْ بطيئةً، أسيرُ وأفكِّرُ بحصارِ الأشرفيَّةِ، في "حربِ المئةِ يومٍ"، مشتاقًا إِلى أصدقاء، وإِلى مركزِ الصَّحيفة حيث كنْتُ أعملُ بعدَ دوامِ الجامعة.

ودَّعْتُ أمّي الَّتي آثرَتِ البقاءَ في بيروتَ، إِلى جانبي أنا وشقيقي الأوسط، ما دامَ أبي وشقيقي الصغيرُ، آمنَيْنِ في جبيل. أحسسْتُ وهي تقبِّلُني، وتنهالُ عليَّ أدعيةً وتحذيراتٍ، أنَّني سأشتاقُ إِليها كثيرًا.كانَ حدسي هذا في محلِّه. فالغداءُ وجلسةُ الشِّعرِ والموسيقى عندَ جانو طالا خمسةَ أيامٍ، من الثَّلاثاءِ إِلى السَّبتِ، دُكَّتْ خلالَها المنطقةُ بعشَراتِ آلافِ القذائفِ، ونمْتُ أربعَ ليالٍ منْها على درجةِ سلَّمٍ، على مدخلِ الملجإِ الَّذي اكتظَّ بعشراتِ العائلات.

سرْتُ، من دونِ أن ألحظَ خُلوَّ الشّارعِ إِلَّا من قلَّةٍ تجرَّأَتْ على النزول إِليْه، حتَّى طالعَتْني مستديرةُ الدَّورةِ، قفرًا. نهرَني عاملُ محطَّةِ الوقود ِالَّذي اعتادَ وجهانا الالتقاءَ يوميًّا وهو يركضُ مسرعًا: "إلى أينَ يا مجنون؟ بدأَ القصف".

لم أكترثْ إلى ما قال. فالقصفُ خبزُنا اليوميُّ أيضًا، وإن غيرَ مغذٍّ. تابعْتُ طريقي، مسرورًا بأنَّني اقتربْتُ من الحافَّةِ الَّتي تفصلُ مدخلَ أحدِ المباني عن محطَّةِ الوقود، لأقفزَ عنْها، كما كلُّ يوم. قفزْتُ بتؤدةٍ، هذه المرَّةَ، فكدْتُ أنزلق.

نظرْتُ أرضًا، فإِذا برأسٍ انفصلَ عنْ جسدٍ، وخرجَ منْه الدِّماغُ وسائلٌ أصفرُ، وحِذائي الجديدُ في وسطِه.كان القتيلُ عاملًا في المحطَّةِ المقابلةِ للمحطَّة حيثُ أقفُ، تركَها ليلجأَ إِلى مكانٍ أكثرَ أمانًا، بعدَما استهدفَها قنَّاصٌ منْ مبنًى عالٍ على جسرِ الكرنتينا، أكثرَ منْ مرَّةٍ، فسقطَ بشظايا قذيفةٍ انفجرَتْ على بُعدِ أمتارٍ منْه.

قرَّرْتُ العودةَ إِلى منزلي، لكنَّ إِلحاحَ جانو عليَّ في الدَّعوةِ، وإغراءَ الموسيقى والشِّعرِ، كانا أقوى منَ الخطرِ المحدقِ بي. فأكملتُ إلى الجديدةِ، مُهرولًا، يمرُّ في بالي "عِقدُ" غسّانَ، وتلَّةُ الجثثِ، على وقعِ صوتٍ أشبهِ بالصَّريرِ، كانَ يُصدرُه حذائي كلَّما لامسَ الأرض!