افتُقد "بدر" نقابة خبراء المحاسبة المجازين، "في ليل" الانهيار المالي والنقدي الطويل. فعلى الرّغم من الدور الكبير الذي أولاه للنقابة قانون تنظيم المهنة الرقم 364 الصادر في العام 1994، بقيت مشاركة التقابة في الشأن العام ضعيفة. وباستثناء المشاركة الفردية الفاعلة لبعض أعضائها بالإضاءة على ملاحظاتها الجوهرية في القرارات المالية، ومساهمتهم الأخيرة في النقاشات التي جرت في الموازنة العامة لسنة 2024، يظهر أنّها غُيّبت عمداً في سنوات الانهيار عن التدقيق في الارتكابات المالية والمحاسبية في القطاعين العام والخاص.

واحد من أكبر التجاوزات لدور "النقابة" تمثّل في إدخال شركات عالمية كـ"ألفاريز آند مارسال" و"كرول" للتدقيق في حسابات المصرف المركزي والشركات المالية والمصارف الخاصة. علماً أنّ قانون تنظيم المهنة يحتّم على أيّ شركة محاسبة تعمل في لبنان الانتساب إلى نقابة خبراء المحاسبة المجازين. وهذا ما لم يتوافر في الشركات المذكورة آنفاً. ومن الإجراءات التي تؤثّر سلباً في دور النقابة وسمعتها، استمرار العمل ببعض مواد القضاء العدلي، السابق للتعديلات التي أدخلها قانون تنظيم المهنة الصادر في العام 1994 إذ يحقّ للقاضي تكليف أيّ شخص يراه القاضي مناسباً للخبرة الفنية التي يريدها دعوى ما، من غير خبراء المحاسبة المجازين، المنتسبين إلى النقابة، بمهمّة فنّية في المحاسبة، بعد أن يحلّفه اليمين. ومن المعروف أنّ مهمة التدقيق والمحاسبة لا تتطلّب معرفة علمية عميقة بقوانين المحاسبة فحسب، إنّما خبرة قانونية وعملية وميدانية مرادفة. وإلّا فإنّ التقارير التي ستصدر لن تكون كافية ودقيقة، وقد تظلم بريئاً أو تبرّئ مرتكباً. وأخيراً بدأت النقابة تولي هذا الشأن دوره عبر تنظيم دورات تدريبية نظرية، مع بعض التطبيقات العملية لأعضائها ولبعض الخبراء في ميادين أخرى معنية بهذا الشأن. كما أنّ عدم وجود القدرات المهنية السليمة والشفافة تنفّر الشركات الأجنبية من العمل والاستثمار في لبنان خشية عدم إنصافها في حال وقوع أيّ إشكال قانوني. وهذا ما يرتدّ سلباً على الثقة بالبنان ومؤسساته.

الانتخابات باب للتغيير، ولكن!

الأسباب الكامنة وراء تهميش دور النقابة عديدة، منها ما هو متصل بعدم العمل على تحديث قانون تنظيمها منذ العام 1994 وبعض القوانين المتداخلة فيها، ومنها ما هو متعلّق بعدم وقوفها سدّاً منيعاً في وجه التجاوزات والتدخلات السياسية. و"لن يغيّر من هذا المسار إلّا فرض النقابة نفسها من خلال مجلس يديرها بعيداً عن السياسة، يملك رؤية مستقبلية واضحة ومستقلّة عن المصالح الخاصّة، ويطبّق قوانين وأنظمة النقابة التي تعتبر واحداً من أهمّ التنظيمات النقابية المالية في لبنان لدى قيامها بدورها المستقلّ، بحسب قانونها الذي خوّلها هذه المهمّة دون سواها"، بحسب أحد الخبراء المجازين. "والفرصة ستكون كبيرة في الانتخابات المزمع إجراؤها حزيران المقبل".

من الطبيعي أن تحكم العملية الانتخابية في نقابة خبراء المحاسبة اللعبة الديمقراطية، شأنها بذلك شأن الانتخابات في المجالات والقطاعات المشابهة لها، لا أن تتحوّل العملية إلى تعليبٍ مغطّى بمخالفات أخلاقية، وهو ما يثير مخاوف الخبراء على الديمقراطية من جهة ومستقبل النقابة من الجهة الثانية. ففي 28 من آذار الفائت وردت معلومات عن حصول مخالفات مشبوهة قبل انتهاء فترة تسديد الاشتراكات السنوية للأعضاء المنتسبين إلى النقابة، والتي ستشكّل الهيئة الناخبة في الانتخابات المقبلة. وهذا ما أغضب النقيب وأوقف كلّ ما يجري وقرّر إجراء تحقيق حول الموضوع وتبيان ما يحصل بعد إبلاغه وقائع ما يجري ليتخذ بموجبه القرار المناسب.

وبحسب بعض المصادر داخل النقابة، فإنّ "إقدام ما يفوق الـ 250 منتسباً للنقابة على تسديد اشتراكاتهم في اليوم الأخير من خلال البعض، لا يهدف إلّا إلى ترجيح كفّة مرشّح على آخر بعيداً عن مصلحة النقابة وهاجس تطويرها. ولو كان موضوع النقابة يهمهم فعلياً لما كانوا انتظروا ثلاثة أشهر ثم سددوا الاشتراكات في اليوم الأخير. وتالياً السماح لهم تلقائياً بالدخول على لوائح الشطب الانتخابية".

طريق من اثنين

"الأيام المقبلة تعتبر حاسمة من حيث رسم مصير النقابة"، تفيد أوساط نقابية. فـ"إمّا السير بطريق المحاباة وإرضاء مصالح مجموعات معيّنة واستمرار تغييب دور النقابة، وإمّا أخذ منعطف آخر لملاحقة التجاوزات المحاسبية والمالية والاقتصادية التي شرّعها الأمر الواقع، وإبداء الرأي السديد فيها. ولا سيما تلك التي تقرّ في الموازنات العامّة وفي القوانين التي للنقابة دور فيها، وتكوين رؤية مستقبلية مبنية على الدور الذي أقرّه القانون للنقابة".

إنّ أهمّية وجود نقابة قادرة في هذه المرحلة تحديداً تمتد أيضاً إلى تطوير الأسواق المالية وتحديثها. فـ"مهنة المحاسبة والتدقيق تشكّل إحدى ركائز تطوّر الأسواق المالية وما يرتبط بها من تصنيف المؤسسات وقبول تداول أسهمها وسندات الدين الصادرة عنها في البورصات المحلية والعالمية". وتالياً "توفير الثقة بالمعلومات المالية عن طريق وضع بيانات مالية مدقّقة تعكس عدالتها حسب الأصول، مما يساعد في الحصول على موارد مالية لهذه المؤسسات بواسطة الاقتراض من الأسواق المحلية والعالمية، والحاجة الآن ماسّة إلى هذه الموارد للنهوض بالاقتصاد الوطني". بالإضافة إلى "توفير المعلومات المالية الوافية للأفراد وللشركات غير اللبنانية التي تبغي الاستثمار في لبنان".