بعدما وقع "فأس" زيادة الحد الأدنى "في رأس" الطبقة الكادحة، علت أصوات تطالب بتصحيح الخطأ التاريخي الذي اقترفته الحكومة بحقّ العمّال والموظفين. نقابات عمالية "صحت من سكرة" مضاعفة الحدّ الأدنى للأجور إلى 18 مليون ليرة، "على فكرة" أنّ هذا الرقم ليس هزيلاً فحسب، إنّما يقتطع من المكتسبات التاريخية التي تمّ تحقيقها بشقّ الأنفاس.

في ميزان الربح والخسارة، يظهر واضحاً أنّ الاتفاق على رفع الحدّ الأدنى للأجور الذي أقرّته لجنة المؤشّر في 19 آذار المنصرم، وثبّتته الحكومة في 4 نيسان الجاري، لم يكن لمصلحة العمال للأسباب التالية:

لم يتضمّن القرار إضافة "غلاء المعيشة" المعمول به تاريخياً، والذي يُقسّم عادة بحسب الشطور. للمثال، جرت في العام 2012 إضافة 61 ألف ليرة كغلاء معيشة إلى الأجر اليومي الذي لا يتجاوز 182 ألفاً. في حين تُرك تحديد قيمة غلاء المعيشة بالنّسبة إلى الأجر اليومي الذي يتجاوز 182 ألفاً للاتفاقات والمفاوضات الجماعية وفقاً لما هو محدّد في اتفاقات منظّمة العمل الدولية المبرمة من لبنان. ولا سيما تلك المتعلّقة بتحديد الحد الأدنى للأجور الرقم 131 المبرمة بموجب المرسوم الاشتراعي الرقم 70 تاريخ 25-06-1977.

لم يستفد أصحاب المداخيل التي تفوق 18 مليون ليرة من أيّ زيادة على دخلهم.

تم تعديل مرسوم الحدّ الأقصى للكسب الخاضع للحسومات لفرع ضمان المرض والأمومة المحدد بـ5 أضعاف الحدّ الأدنى للأجور، فأصبح 50 مليون ليرة كمبلغ مقطوع، بدلاً من 90 مليوناً.

النقابات تُعلّي الصوت

توالت المواقف النقابية الرافضة لقرار تعديل الحدّ الأدنى للأجور. فاتحاد النقابات العمالية للمصالح المستقلّة والمؤسسات العامة في لبنان اعتبر في بيان أنّ "الحكومة حين تعدّل الحد الأدنى للأجور من دون إقرار زيادة غلاء المعيشة، فإنّها تعلم جيداً أنّ رواتب الأجراء لا ترتفع وإنّما تكاليفهم سترتفع. لا سيما تلك المرتبطة بالحد الأدنى للأجور، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، الاشتراكات التي سيسدّدها المضمونون المتقاعدون، والسائقون العموميون وغيرهم. لذلك يطالب الاتحاد الحكومة بإقرار زيادة غلاء للمعيشة عادلة وكافية"، في حين رأى اتحاد جبل عامل لنقابات العمال والمزارعين أنّه "بعد مصادرة أموال الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي سابقاً وتوظيفها في سندات الخزينة بقرارات خاطئة، تنوي الدولة الإجهاز على الصندوق كلّياً بتعديل مرسوم الحدّ الأقصى للكسب الخاضع للحسومات لفرع ضمان المرض والأمومة ليصبح 50 مليون ليرة. فهذا القرار يشكّل مخالفة صارخة لقانون الضمان الاجتماعي لعدم احترامه الأصول القانونية في إعداد المراسيم وإرسالها، ويضرب محاولة تصحيح التعرفات الطبية ورفعها، ويمنع أيّ تصحيح للتقديمات في فرع ضمان المرض والأمومة. وبالتالي، سيحرم فئة كبيرة من اللبنانيين من الاستشفاء والطبابة. ويحكم عليهم بالموت أمام أبواب المستشفيات". وعلى غرار الموقفيْن السابقيْن، صدرت بيانات استنكار عن نقابة مستخدمي وعمّال مؤسسة مياه لبنان الجنوبي، و"الاتحاد البترولي اللبناني"، والاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين في الجنوب وغيرها.

لا غلاء معيشة

الاعتراض النقابي على مرسوم زيادة الأجور وتعديلاته أتى بعد يومين على صدوره. وهو ما يطرح في الشكل واحداً من أمرين: إمّا عدم متابعة النقابات للقضايا الجوهرية المتعلّقة بأمور العمال وشجونهم في فترة "طبخ" القرارات. وإمّا تحرّكها بناء على إشارات من جهات معينة لـ "حفظ ماء الوجه". لتعود الأمور وتُنسى قبل أن يجفّ الحبر الذي تكتب به هذه البيانات. ذلك مع العلم أنّ ما جرى يعدّ الأخطر على العمّال وحقوقهم المكتسبة"، بحسب مصدر مسؤول في "المرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين". فالقرار المتصل برفع الحدّ الأدنى للأجور من دون إعطاء زيادة غلاء المعيشة التي يفترض بها أن تشمل كلّ الأجور بحسب الشطور، أتى على طريقة عمل "صبّابين الشاي"، إذ ترمي كلّ جهة المسؤولية على الجهة الأخرى. فالحكومة تذرعت بالقانون 36/67 الذي يعطيها صلاحية رفع الحدّ الأدنى فقط، من دون إعطاء زيادة غلاء المعيشة. مع العلم أنّ المراسيم السابقة، منها ذلك الذي أشرنا اليه في البداية، كانت تتضمن إعطاء غلاء معيشة إلى جانب رفع الحدّ الأدنى للأجور. ولطالما كان هذا القانون مطلباً تاريخياً لأصحاب العمل. إلّا أنّ المفارقة الكامنة في المرسوم هي اعتماد الحكومة في رفع الحد الأدنى على لجنة المؤشر، التي أعطاها القانون صلاحية تقدير نسبة الغلاء التي طرأت على أسعار السلع والخدمات، وبالتالي اقتراح زيادة الأجور بنسبة الغلاء المحقّقة. وعليه، استندت الحكومة في قرارها إلى القانون 36 الذي ينفي دور لجنة المؤشر. ومن ثم عادت إلى إقراره بعد الاستناد إلى قرار لجنة المؤشر لتحديد قيمة الزيادة. وهذا قمّة التناقض.

النتائج الذي ستترتب على رفع الحد الأدنى للأجور إلى 18 مليون ليرة مع استثناء نسبة غلاء المعيشة، ستظلم الفئات العمالية التي لا تسمح لها مؤهلاتها بأن تتقاضى أجوراً تساوي الحد الأدنى. وما جرى هو ضرب للكفاءات العلمية والعملية والتمييز بين العمال، إذ تمّ نظرياً وضع جميع العمال بمختلف تخصّصاتهم وبراعتهم المهنية جنباً إلى جنب عند 18 مليون ليرة حداً أدنى للأجور.

تخفيض اشتراكات المرض والأمومة

النقطة الخطيرة التي لا تقلّ أهمّية عن عدم إعطاء غلاء المعيشة، تمثّلت في تخفيض الحد الأقصى للكسب الخاضع لحسومات فرع ضمان المرض والأمومة. إذ خفّض هذا البند من 5 أضعاف الحدّ الأدنى للأجور أي 90 مليون ليرة بعد التعديل، إلى 50 مليوناً. ومن المعلوم أنّ رسم الاشتراك لفرع المرض والأمومة يبلغ 11 في المئة، 3 في المئة على الأجير و8 في المئة على صاحب العمل. وعليه، فإنّ الرواتب التي تزيد على 50 مليون ليرة (550 دولاراً) في القطاع الخاص، يقتطع منها 11 في المئة إلى حدّ 50 مليون ليرة فقط لمصلحة الضمان. وهذا ما يُدخل مداخيل كبيرة إلى الضمان الاجتماعي هو بأمسّ الحاجة إليها لزيادة تقديماته التي ما زالت زهيدة. وبحسب المصدر، فإنّ الغاية من إضعاف الضمان الاجتماعي وعدم تمكينه من زيادة قيمة تقديماته الصحية والاستشفائية والدوائية هي بثّ الملل في نفوس العمال من الضمان، لجعلهم غير مهتمين بتسجيلهم في الضمان أو بمطالبتهم أرباب العمل بعدم التصريح عنهم للضمان بأقصى الحالات، لكي يستفيدوا من تقديمات وزارة الصحة. وهذا ما يرهق الخزينة العامة للدولة، ويحملها أعباء كان يجب أن يدفعها أرباب العمل.

يتأبّط ممثّلو العمّال منذ عقود الشعارين "خذ وطالب" و"ما لا يُدرك كلهّ لا يُترك جلّه"، ليقنعوا العمّال بمواقفهم. ولكن في الحقيقة فإنّ مكتسبات العمّال تتقهقر وحقوقهم تذوب وقدرتهم على الصمود تتراجع. ولعلّ خير دليل على ذلك الفرق الكبير بين أرقام الإحصاء المركزي والدولية للمعلومات المتعلّقة بالحدّ الأدنى للأجور. فالأولى تعتبر أنّ الحد الأدنى يجب ألّا يقلّ عن 37 مليون ليرة، في حين تذهب الثانية أبعد فتعتبر الـ52 مليون ليرة حداً أدنى مقبولاً. وذلك بالاستناد إلى نسبة التضخم الحاصلة. وفي الحالتين، فإنّ الرقم بعيد جداً عن 18 مليوناً التي حددتها الدولة. وكان الأجدى بالنقابات واتحاداتها متابعة القرارات والضغط لتحقيق المطلوب بدلاً من البيانات التي تظهر أنّه جرى الأخذ بها على حين غرة. لأنّه إن لم تكن تعلم فمشكلة، وإن علمت وسكتت فالمشكلة أكبر.