شهد العام 2022 أزمة كهرباء خانقة في لبنان أدّت إلى انقطاع شبه تام للتيار الكهربائي عن اللبنانيين. عامذاك كان الحديث عن استجرار الكهرباء من الأردن والغاز من مصر لتشغيل معامل كهرباء تعمل على الغاز. بالطبع الكل يعلم أنّ هذا المشروع اصطدم بعراقيل كثيرة، على رأسها التمويل الذي كان من المفترض على البنك الدولي أن يٌقدّمه بحسب الوعود الغربية إلى الحكومة اللبنانية مُقابل عدد من الشروط التي عجز لبنان عن الالتزام بها.

ولعلّ أهمّ هذه الشروط هو تعيين "الهيئة الناظمة" لقطاع الكهرباء، والتي أدّى الصراع السياسي القائم آنذاك (والمُستمرّ حتى الساعة) إلى فرملة الموضوع. وككلّ الملفات أصبح في طيّ النسيان. لكن لماذا شرط تعيين هيئة ناظمة؟

في المفهوم الاقتصادي، فإنّ الدولة أو آلة الدولة وقوتها، هي مورد محتمل أو تهديد لكلّ قطاع اقتصادي في هذه الدولة (Stigler 2011). ومن خلال سلطتها في الحظر أو الإجبار، أو أخذ الأموال أو منحها، تستطيع الدولة أن تُساعد أو تُلحق الضرر بشكل انتقائي بعدد كبير من القطاعات. فمثلًا، فإنّ القوة السياسية الطاغوت، صناعة النفط بحسب تعبير Stigler ، هي مستهلك هائل للمنافع السياسية، وفي الوقت نفسه، فإنّ حصة التأمين على النقل البحري أقلّ في قالب الحلوى. وبحسب Stigler، تتمثل المهمات الأساسية لنظرية التنظيم الاقتصادي في توضيح من سيحصل على فوائد التنظيم أو أعبائه، والشكل الذي سيتخذه التنظيم، وتأثيرات التنظيم على تخصيص الموارد.

وقد يسعى قطاع اقتصادي مُعيّن إلى التنظيم أو قد يُفرض عليه، إلّا أنّ القطاع الاقتصادي يكتسب التنظيم ويتم تصميمه وتشغيله في المقام الأول لمصلحة هذا القطاع. وهنا تظهر إلى العلن وجهتا نظر: الأولى تنصّ على أنّ التنظيم يُوضع في المقام الأول لحماية الجمهور ومنفعته بشكل عام أو لحماية بعض الفئات من هذا الجمهور. والثانية هي أنّ العملية السياسية في الأساس تتحدّى التفسير العقلاني. فالسياسة هي مزيج لا يمكن قياسه، ومتغيّر باستمرار ومن المتعذّر التنبؤ به من القوى ذات الطبيعة الأكثر تنوعًا، والتي تشمل أفعالًا ذات فضيلة أخلاقية عظيمة مثل تحرير العبيد، ورذيلة أخلاقية كبيرة مثل الفساد (Stigler 2011).

وبما أن الدولة تمتلك موردًا أساسيًا واحدًا لا تتقاسمه من حيث المبدأ مع أحد، وهو القدرة على الإكراه (la force légitime)، فبإمكانها أن تستولي على الأموال بالطريقة الوحيدة التي تسمح بها قوانين المجتمع المتحضر، وهي الضرائب. ويمكنها أن تأمر بالتحركات المادية للموارد والقرارات الاقتصادية للأسر والشركات من دون موافقة هذه الأخيرة. هذه الصلاحيات الحصرية تسمح باستخدام الدولة من قبل القطاع الزراعي أو الصناعي أو التجاري لزيادة الأرباح. ويُعتبر الدعم المادي المباشر مثالًا صارخًا عن هذا الأمر.

مثال آخر على قدرة اللاعبين الاقتصاديين على التأثير في القررات التنظيمية للدولة، هو السيطرة على دخول منافسين جدد من خلال وضع شروط تكون، عادةً، تعجيزية تسمح للّاعبين الحاليين بزيادة الربحية.

لذا هناك حاجة إلى هيئات ناظمة مُستقلّة تعمل للصالح العام وليس للصالح الخاص.

الهيئة الناظمة المُستقلّة هي عبارة عن لجنة رقابية تُنشأ بموجب قانون وتُمنح سلطة لوضع القواعد وتنفيذها. وتكون هذه الهيئة جزءًا من السلطة التنفيذية وتتمتع بسلطة قانونية لأداء وظائفها تحت إشراف السلطة التشريعية، وغالبًا ما تكون أفعالها عرضة للمراجعة القانونية. هذا التفويض يمنحها مستوى معيّنًا من الاستقلالية عن الحكومة (بغضّ النظر عن التوجّه السياسي) وعادةً، يُعيّن أعضاؤها لمدة محددة، ولا يجوز عزلهم من مناصبهم من دون سبب ينص عليه القانون. ويكون لهذه الهيئة هيكلية توظيف تحدّ من عدد الموظفين الذين يمكن أن تعيّنهم الحكومة، مما يترك مجالاً أكبر للخبراء المحايدين في مجال اختصاص الهيئة بدلاً من خبراء حزبيين قد تكون لديهم أهداف حزبية.

وينص عمل الهيئة الناظمة على وضع متطلبات يجب على الكيانات الخاضعة لها إتباعها؛ تطوير المعايير الفنية ومراجعتها وتنفيذها والجودة والسلامة للكيانات الخاضعة لها؛ وضع معايير لما يُسمّى بالسلوك السليم للكيانات الخاضعة لها؛ إدارة أنظمة الترخيص؛ إجراء عمليات التفتيش والتدقيق في الكيانات الخاضعة لها؛ إجراء التحقيقات وجلسات الاستماع بشأن انتهاكات الامتثال؛ إصدار الغرامات على الكيانات الخاضعة لها غير الملتزمة؛ حل النزاعات بين الكيانات الأعضاء.

‍بالطبع، هناك إلزامية على حسن اختيار أعضاء الهيئة الناظمة، والتي عادةً تتمّ من خلال مؤسسة دولية مثل الـUNDP، أو شركات دولية مُختصّة، ويكون معيار الكفاءة هو الأساس، إذ تُرفع إلى مجلس الوزراء عدة سِيَر ذاتية لكل منصب ويحصل الاختيار في مجلس الوزراء من بين السِيَر المُقترحة، على أن يُمنع بوضوح على السياسيين الاتصال بالمرشحين خلال فترة التعيين، وهو ما يضمّن عدم ولاء الأعضاء إلى أي طرف سياسي، خصوصًا أنهم مُحصنون بولاية لا يُمكن العيوب السياسية أن تُقصّر مُدتها.

ولكن كيف يؤثّر عمل الهيئات الناظمة على عمل الحكومة؟ الجواب بكل بساطة من خلال تزويدها بمساعدة غير حزبية وغير سياسية في إدارة بعض القطاعات الاقتصادية، وهي ضمان أن لا يكون هناك خضوع أجزاء من الاقتصاد لسيطرة السلطة التنفيذية بشكل مباشر. وهذا يساعد على دفع الاقتصاد بسياسات اقتصادية سليمة خالية من النفوذ السياسي.

إذًا، من كل ما تقدّم نرى أن لبنان يحتاج سريعًا إلى هيئات ناظمة تشمل كلّ القطاعات، وتكون هذه الهيئات مُستقلّة تمامًا عن الوزارات التي أصبحت بعد دستور الطائف جمهورية تابعة للوزير الذي يترأسها.

إنّ الواقع الذي يوجد فيه الاقتصاد اللبناني والحلول التي تطرحها الجهات السياسية التي تخدم بشكلٍ أو بآخر مصالح سياسية، يفرض على لبنان أن يكون لديه هيئات ناظمة. هذه هي الطريق الوحيدة لرفع اليد السياسية عن الاقتصاد وتأمين إدارة اقتصادية ومالية ونقدية مُستقلّة عن العمل السياسي الذي من المفترض أن يرتقي إلى مستوى عالٍ من التعاطي مع الأمور الاقتصادية ولا يجعلها رهينة التعطيل.