من المتوقّع أن تعمد الحكومة إلى وضع بند "تحديد سعر صرف السحوبات المصرفية" على جدول أعمال جلسة مجلس الوزراء المقبلة – أي بعد الأعياد. وفي التفاصيل أنّ حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري رفض تحديد سعر صرف السحوبات، بحجّة أن لا صلاحيات لمصرف لبنان في هذه النقطة (وهذا صحيح)، وأنّ وزير المال يوسف خليل رفض تحمّل وزر قرار كهذا. وبما أنّ المصارف رفضت تطبيق التعميم 166 من دون تحديد سعر صرف السحوبات، فقد أُتخذ – جرياً على العادة – القرار القاضي بتوزيع المسؤوليات تفاديًا لكبش محرقة، وذلك من خلال إقراره في مجلس الوزراء حيث مُعظم القوى السياسية مُمثّلة، وبالتالي تغطّي كلُّ قوّة القرار أمام جمهورها.

عمليًا، ما سبق يقترح أنّ هناك مخاوف خلف هذا القرار، والسبب يعود إلى التداعيات التي ستواجه أيّ سعر صرف سحوبات يتمّ إقراره.

تُشير التحاليل إلى أنّ سعر الـ 89500 ليرة لبنانية للدولار الواحد هو سعر لا يعكس الواقع، وذلك بحكم أنّ الليرة لم تعد تخدم الاقتصاد، والدليل الدولرة الشاملة المُعتمدة وتراجع الكتلة النقدية بشكلٍ كبير أمام حجم التبادلات التجارية في الأسواق. وبالتالي أصبحت الليرة اللبنانية أشبه بسلعة، نُدرتها تُحدّد سعرها. ومن ثمّ لا تبرير اقتصادياً بحتاً لسعر الـ 89500 بل إنّ السعر الحقيقي المبني على مبدأ "السلعة" هو أقل من ذلك بكثير.

غياب الإصلاحات الجوهرية يجعل من عودة استخدام الليرة اللبنانية في التعاملات التجارية وأجور القطاع العام، أمرًا شبه مُستحيل بحكم أن ارتفاع الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية سيؤدّي حكمًا إلى ارتفاع سعر صرف الدولار مُقابل الليرة في وقت لا يستطيع المصرف المركزي الدفاع عن الليرة بالوسائل التي يمتلكها.

إقرار سعر صرف السحوبات على 89500 ليرة من دون قانون كابيتال كونترول سيُعيد مأساة ارتفاع سعر الصرف في السوق، خصوصًا أنّ حجم الودائع بالعملة الصعبة يُقارب الـ 90 مليار دولار أميركي، أي ما يزيد على 8000 تريليون ليرة لبنانية (8 كوادرليون) مقارنة بكتلة نقدية بالليرة اللبنانية في التداول بـ 50 تريليون ليرة! وهو ما سيؤدّي إلى ضرب سعر صرف الليرة في السوق ومعه ضرب كلّ المُحفّزات التي قدّمتها الحكومة إلى القطاع العام من أجل عودته إلى العمل الطبيعي.

عودة استخدام الليرة اللبنانية في التعاملات التجارية وأجور القطاع العام، أمر شبه مُستحيل

إقرار سعر صرف السحوبات على سعر أقلّ من 89500 ليرة لبنانية سيؤدّي بدوره إلى استمرار الاقتطاع من الودائع بشكل غير عادل، إذ إنّ سعر صرف سحوبات بـ 15000 ليرة كما هو في التعميم 151، يؤدّي إلى نسبة اقتطاع 83.2%، وسعر 25000 يؤدّي إلى نسبة اقتطاع 72.1%، وسعر 35000 يؤدّي إلى نسبة اقتطاع 60.9%، وسعر صرف 45000 يؤدّي إلى اقتطاع بنسبة 49.7% (أنظر إلى الرسم النموذجي الرقم 1). إلّا أنّ هذه النسب هي نسب الاقتطاع المباشر ولا تعكس النسب الحقيقية التي ستنتج من تدهور سعر الصرف في السوق، وبالتالي فإن النسب الحقيقية هي أعلى مما ذُكر أعلاه.

رسم 1: نسبة الاقتطاع المباشرة من الودائع بالدولار الأميركي بحسب سعر صرف السحوبات المصرفية


إذًا، أيّ سعر صرف للسحوبات يُمكن اعتماده؟ هنا تكمن المُشكلة! فسعر صرف موحد على 89500 ليرة من دون كابيتال كونترول هو كارثة على سعر الصرف الرسمي، وسعر صرف سحوبات أقل من 89500 يعني تلقائيًا اقتطاعاً مباشراً وغير مباشر من الودائع، وبالتالي إثارة غضب المودعين بعد أعوام من الاقتطاع من ودائعهم!

حاكم المركزي بالإنابة يرى في توحيد سعر الصرف أمرًا أساسيًا لبدء الخروج من الأزمة. وبالنسبة إليه (بحسب تصريحاته) هناك سعر صرف واحد هو المحدد على شاشات مصرف لبنان، أي 89500 ليرة لبنانية. وباعتقادنا، فإنّ الحاكم بالإنابة يرى أنّ في سعر الليرة مُقابل الدولار الحالي هامش تحرّك. وبالتالي، فإنّ اعتماد سعر صرف الـ89500 ليرة لبنانية هو أمرٌ مُمكن بشرط وضع سقف للسحوبات، وهو ما يعني إقرار قانون كابيتال كونترول. وقد يُمكن تفسير هذا الموقف بأنّه حثّ من قبل حاكم المركزي بالإنابة للسلطة السياسية على إقرار القوانين الإصلاحية.

أمّا وزير المال، وهو مُدير العمليات السابق في المصرف المركزي، فيعلم جيدًا تداعيات كل واحد من هذه الخيارات. وبالتالي، فهو يرفض رفضًا تامًا أخذ القرار مُنفردًا نظرًا إلى التداعيات السياسية على صاحب القرار، والتي ستؤدّي حكمًا إلى ضرب مُستقبله السياسي. وباعتقادنا أنّ هذا الأمر يُثير ريبة المعنيين أجمعين.

ما هو القرار الذي ستأخذه الحكومة؟ لا أحد يعلم، لكنّ الأكيد أنّ على الطاولة عدّة خيارات، منها توزيع المسؤوليات وإقرار سعر صرف سحوبات بقيمة 25 أو 30 أو 35 ألفاً، وهناك خيار آخر مُدجّن يجري الحديث عنه من خلال قانون يتمّ فيه إقرار سعر صرف سحوبات على سعر منصّة مصرف لبنان، أي 89500 مع وضع سقف للسحوبات يوازي سعر الصرف الرسمي الذي أعلنه مصرف لبنان. وما يُساعد في اعتماد الخيار الأخير هو الهامش الذي يمتلكه المصرف المركزي بحكم أنّ سعر صرف 89500 ليرة مُقابل الدولار الواحد هو أكثر من السعر الواقعي.

لكن إذا ما سلّمنا جدلًا بأنّ سعر صرف السحوبات تمّ إقراره على سعر الصرف في مصرف لبنان (أي 89500 ليرة حاليًا)، فكيف ستجري إدارة الكتلة النقدية التي ستنتج من ذلك؟ عمليًا، إذا أُقرّ سقف للسحوبات، فسيكون هذا السقف كافيًا لاستيعاب الكتلة النقدية الناتجة من القانون من دون اضطرابات كبيرة في سعر الصرف لأن السعر الحقيقي هو أقلّ من سعر الـ 89500 ليرة، خصوصًا أن الليرة غير مُستخدمة في التبادلات التجارية. أمّا إذا دُفعت هذه المبالغ بالدولار الأميركي، فهذا يعني أنه سيتم شراء الدولارات من السوق اللبناني، وهو ما سيطرح مُشكلة اقتصاد الكاش وشرعية مصادر الدولارات (العزيزة على قلب حاكم المركزي بالإنابة).

فما هو القرار الذي سيُعتمد؟ فلننتظر جلسة مجلس الوزراء المقبلة.