جميلة هي الروايات التي تتحول إلى السينما أفلامًا، أو إلى التلفزيون مسلسلات. والأجمل حين تكون تاريخية فتغني ساعتذاك عن متعة القراءة، بمتعة الصورة والمشاهد، أو حين تكون وقائعها أسطورية فيضاف إلى الخيال خيال.

هذه حال رواية "الشيفرة الفينيقية" للكاتب اللبناني كريم الكوسا الذي وقّعت شركة لإنتاج الأفلام السينمائية في الولايات المتحدة الأميركية، عام 2018، معه عقدًا لتحويلها إلى فيلم سينمائي عالمي، وتبدَّل الهدف لاحقًا لتحويلها مسلسلًا من بضع حلقات. ويقول الكوسا، ابن زغرتا، لـ"صفا نيوز"، إن مهلة العقد الذي جُدِّد أكثر من مرة، ستنتهي الشَّهر المقبل، وإنه مستمر في السعي إلى إيجاد ممول آخر، لأن مضمون روايته يستأهل أن يعمَّم، ما دام يبرز أهمية لبنان.

كريم الكوسا موقعاً الشيفرة الفينيقية

فعسى الرواية تتحول فيلمًا أو مسلسلًا قريبًا.

مضمون الرواية، يذكرني بمراهقتي أو مطلع شبابي. إذ لفتني، في سبعينات القرن المنصرم، مسلسلٌ على الشَّاشة الوحيدة آنذاك، تلفزيون لبنان، أبطاله شخصيَّات من عصر عربيٍّ غابر، يعيشون في عصرنا الرَّاهن، فيدهشهم كلُّ شيء، حتَّى ما آلت إليه اللُّغة.

عجبت لتلك الفكرة الَّتي تردم حقب التَّاريخ، بتجوال كاميرا على الزَّمان والوجوه، من دون أن أعي عمق معناها.

 كبُرت... وتعرَّفت إلى أدب أمين معلوف، ومنحاه في الرِّواية الذي دمج الحقيقة بالمتخيَّل، كأنَّ التَّاريخ ورق لعب، نخلطه كلما انتهى دقُّ الورق، ثمَّ نوزِّعه على الحاضرين.

وغُصت في السِّياسة والإعلام، حتَّى إذا شئت وصفَ وضع لبنان، ذات يوم، بعد زلزال العام 2005، لم أجد أجمل من العبارة المصريَّة "خلطبيطة"، حيث تأكَّد لي أنَّ بريتني سبيرز جارية في بلاط هارون الرَّشيد، وأنَّ المطربة دنانير منشدة في كورس الرَّحابنة.

شيفرة كريم الكوسا الفينيقيَّة أحيت فيَّ كلَّ تلك الغرابات. وكنَّا التقينا، قبلُ، على خطٍّ فكريٍّ تاريخيٍّ دينيٍّ، يدحض السَّائد عمَّا يتعلَّق بالدِّيانة المسيحيَّة، وشخصيَّة المسيح، ويجرؤ على كسر المحرَّمات، لا من منطلق "خالف تعرف"، بل استنادًا إلى العلم والوثيقة والمنطق، وصولًا إلى الحقيقة.

وفي هذا المسار من العلاقة بيننا، كانت مخدَّتنا التي نأوي إليها مرتاحي الضَّمير، مخزونًا تاريخيًّا فكريًّا دينيًّا جمعه سعيد عقل ومي مرّ والأب يوسف يمِّين، "أبو المردة"، وآخرون، ولم يكن إلَّا إبحارًا في مستحيلٍ، شراعُه العلم، ومجذافُه الجُرأة، وقبطانه بحَّارٌّ طوَّع البحر، فكيف لا يطوِّع المستحيل؟

"الشِّيفرة الفينيقيَّة"، قد يُظنُّ لوهلة، أنَّه مجرد رواية متخيلة، أو دُرجةً، أو موضة بالعاميَّة، نتبعها لنكون أبناء العصر.

وقد يُعتقد أنَّها ردٌّ على "كود دافنشي".

وقد يقال إنَّ هذا الكريم "يحركش" في التَّاريخ ويتلاعب، لا لشيء، إلا لكي يحفر اسمًا على لوحة "المزعجين" المتسبِّبين بصداعات في الرَّأس، لا بدَّ أن تزول، وإن لم تنفع معها المسكِّنات.

لكنَّ شيفرة كريم، والحقُّ يقال، رسالة بولسيَّة، للتَّبشير بالمسيح، الَّذي قد تكون الأهواء والمصالح المتراكمة، منذ ألفي عام، شوَّهت حقيقته، وما زلنا نجرع إلى اليوم الكأس المزغولَ خمرُها، ونتناول القربانة المعجونَ قمحُها بالزُّؤان، من دون أن ندري، لا نحن ولا القيِّمون علينا.

الشِّيفرة الفينيقيَّة رسالة بولسيَّة، في امتياز. إذ ليس مصادفة، أو عن عبث، أن يحمل اسم بطل من أبطال شيفرة الكريم، اسم بولس... وما علينا إلَّا أن نقرأ كلَّ يوم فصلًا من رسائل بولس الرِّواية، ونطلب أن يبارك السَّيِّد... والحقيقة.

وتبشير بولس الرِّواية حاضر، في شكل أو آخر، في كلِّ ما أتى به الكريم من أعمال، من ضمن مسار متصاعد، بدأ يحتلُّ مكانًا ومكانة في عالمي الفكر والنَّشر. وقد اكتملت، ربَّما، ثلاثيَّته، بين بيتاغور الماتيماجيسيان، والشِّيفرة الفينيقيَّة، والمسيح الفينيقيِّ. اكتملت كتابةً وشهادة للحقِّ، وما عليه بعد، إلَّا أن يخوض معركتي دحض السَّائد، وإثبات الحقيقة وتبنِّيها...

وقد حاولتُ، عملًا بقول لتشرشل إنَّ أطول نصٍّ يمكن تكثيفه واختصاره في ثلاثين سطرًا، أن ألخِّص الرِّواية، فما استطعت، بل قل إنِّي قد وجدت تشرشل مخطئًا، لأنَّ الرِّواية لا تلخَّص...

وما العمل؟ اقرأها... وكفى.

فقرأت، واقرأوا ما بين دفَّتيها، لو سمحتم.

وقد تبيَّن لي أنَّ جوهر ما يتصدَّى له الكريم، هو أن نعرف الأصل الحقيقيَّ للسَّيِّد المسيح والبيئة الَّتي عاش فيها، فتتَّضح صورته أكثر لكثر لا يفهمونها، ولو كانوا مسيحيِّين.

فالمسيح في العقيدة المسيحيَّة، هو الله المتجسِّد، وهو ثاني الثَّالوث، وطبعًا هو أسمى وأعلى وأكبر من أيِّ انتماء أرضيٍّ. ولكن إذا ثبُتت كَنعانيَّته أو فينيقيَّته، وبالتالي لبنانيَّته، يكون الكريم ممَّن شهدوا للحقِّ، فتحرَّروا وحرَّرونا معهم، وتكون هذه الأرض، لبنان، فعلًا أرضَ الله، أو الجنَّة الَّتي هنئت فيها عيناه.

الشِّيفرة الفينيقيَّة التي صدرت بالإنكليزية، ثم عُربت وصدرت عن دار سائر المشرق، ثم ترجمت إلى الفرنسية، رواية يربطها خيط، لا يمكن تجاوز سطر فيها، وإلَّا طالَعَتك العُقد، ورحت تتلهَّى بفكفكتها. خلِّ عينك عليها، صفحةً صفحةً، وسطرًا سطرًا، وكلمةً كلمةً، وحتَّى نقطةً وفاصلة.

وبعد؟

ليدع كريم الكوسا عنه همًّا.

وليدع انتقادًا أو نظرة تشكيك، واستخفافًا من هنا أو استعلاء من هناك.

فشيفرته الفينيقيَّة أصدق من كثير ممَّا تقدمه إلينا كتب التَّاريخ على أنَّه حقيقة، في حين أنَّنا كلَّما وقعنا على وثيقة، أو أعملنا المنطق، تبيَّن لنا أنَّ من كتب التَّاريخ كان يسرد الوقائع، ولو وفق ترتيبها الزَّمنيِّ، وفق أهوائه أو وفق مصلحةِ من يمثِّل أو يؤيِّد، ليظهر أنَّ التَّاريخ الَّذي عرفناه، رواية متخيَّلة، فيما التَّاريخ الَّذي يكتبه كريم، وإن متخيَّلًا، هو القابض على الحقيقة.

يكفي كريم الكوسا قوله إنك إذا لم تقتنع بما توصلت إليه أبحاثه في شأن كنعانية المسيح، فلتعترف على الأقل بجمالية الرواية، إذ إنها "محاولة كتابة التاريخ الفينيقي من جديد". أما الرسالة الأساسية في "الشيفرة الفينيقية" فأن نقول "إن المسيح كنعاني الأصل فينيقي، وليس يهوديًّا، وهذا أمر جديد مستند إلى وقائع وإثباتات"، على ما يختم الكوسا.