كما تُعتبر "الحاجة أمّ الاختراع"، بحسب أقدم الأقوال الإنكليزية، فإنّ "تعسّر المصارف أبا العمولات". إذا كان من المسلّم به أنّ المصارف التجارية ليست جمعيات خيرية، ومن الطبيعي أن تتقاضى عمولات مقابل خدماتها، فمن المستهجن تحوّل العمولات إلى المصدر الوحيد للإيرادات. ليس لأنّ في ذلك مخالفة لـ"ألف باء" عمل المصارف فحسب، بل لأنّه يكبّد العملاء تكاليف فوق طاقتهم من دون أن يتمتّعوا بحرّية الرفض.

"تكسب المصارف التجارية أرباحها من الفرق بين التكاليف والدخل الذي تحصل عليه من خلال الفوائد التي يدفعها المقترضون، أو المكتسب من خلال الأوراق المالية"، بحسب ما أورد الاقتصادي الألماني كلاوس بيندر في مؤلّفه: "صُنَّاع النقود: العالم السِّرِّي لطباعة أوراق النّقد". وليس في معجم العمل المصرفي قاعدة أو طريقة عمل تقوم على تحقيق المصارف الأرباح من العمولات كما يحصل في لبنان. فتعسّر المصارف وتوقّف عمليات الإقراض من "الحسابات القديمة": (اللولار والليرة)، واستحالة استعمال الحسابات الجديدة "fresh account" في التسليف قبل تعديل "القوة الإبرائية المطلقة لليرة"، وإصدار قانون يلزم إعادة القرض بعملة الاقتراض نفسها، هذه العوامل مجتمعةً أوقفت كلياً الطريقة التي تؤمّن بها المصارف مداخيلها، فاستدارت نحو العمولات.

العمولات على قروض الإسكان

تعتبر عمولة إقفال قرض الإسكان بنسب متفاوتة، واحدة من أكبر هذه العمولات، وأكثرها استنسابية واستغلالاً لخوف المقترضين، ومحاولتهم تأمين الحدّ الأدنى من الأمان الاجتماعي. فاستجابة للقرار الوسيط الصادر عن مصرف لبنان رقم 13260 تاريخ 26 آب 2020، الذي ألزم المصارف قبول سداد القروض السكنية للمقيمين وقروض التجزئة بالليرة على أساس 1507.5 ليرة لبنانية للدولار، تهافت المقترضون على تسديد قروضهم. فرفضت مصارف عدة تسديد قيمة القرض دفعة واحدة، واشترطت على المقترضين دفع عمولات لإقفال القرض.

الأمور لم تقف عند حدود القروض بالدولار، إنّما امتدّت إلى قروض الإسكان بالليرة أيضاً على الرّغم من إصدار مصرف لبنان تعميماً آخر في 12 تشرين الأول 2022 تحت الرقم 646 ينصّ استثنائياً، وبخلاف أيّ نصّ تنظيمي آخر، على التسديد المسبق للقروض بعملة القرض من دون تحميل العميل الغرامات المنصوص عنها في هذا القرار، والناتجة من التسديد المسبق لرصيد قرضه السكني. وقد اشترطت بعض المصارف خلال العام 2023 لتسديد قروض الإسكان بالليرة، دفع عمولة 100 دولار إذا كان المبلغ المراد تسديده يقلّ عن 80 مليون ليرة، و200 دولار إذا كان المتبقّي من القرض يفوق هذا الرقم. المفارقة أنّ عمولة 200 دولار على تسديد قرض بقيمة 100 مليون ليرة أو 1100 دولار على سعر صرف السوق تبلغ حوالى 20 في المئة.

التعسّف في استخدام الحق

مع تحسّن الرواتب والأجور في القطاعين العام والخاص في العام 2024، واتجاه المؤسسات الخاصّة لتسديد نسبة من المداخيل تراوح بين 30 و100 في المئة بالدولار، رفعت بعض المصارف مرّة جديدة عمولة إقفال القروض السكنية بالليرة دفعة واحدة إلى حدود 250 دولاراً (قابلة للتفاوض)، تشكّل أحياناً كثيرة 50 في المئة من المبلغ المتبقّي من القرض. "وهذا ما يعتبر تعسّفاً باستخدام الصلاحيات الممنوحة للبنوك". بحسب عضو رابطة المودعين المحامي فؤاد الدبس. "وإذا كانت العمولات جزءاً لا يتجزّأ من تقديم الخدمات، فيجب أن تكون من ضمن الممكن وفي إطار المعقول، خصوصاً أنّ قسماً منها لم تنصّ عليه العقود ولم يتمّ الاتفاق عليها مسبقاً بين المصرف والعميل عند بدء العلاقة التعاقدية بينهما". ومن المهمّ، برأي الدبس "أن لا تفوق العمولات قدرة المودعين على تحمّلها".

التعامل من موقع القوة

تتعامل المصارف مع المودعين من موقع القوة، وقدرتها على استغلال حاجتهم وحاجة المقترضين. فمن وفّر على نفسه مبلغ 65 ألف دولار نتيجة تسديد قرض بقيمة 100 مليون ليرة بـ 1000 دولار فقط بدلاً من 66 الفاً، لن "يغصّ" بدفع 100 دولار. إلّا أنّ هذه العمولة تعتبر "تعسّفاً في استعمال الحق"، برأي الدبس، "واستغلالاً لخشية المودعين من تغيّر سعر الصرف، من أجل فرض مبالغ كبيرة عليهم، بشكل مفاجئ وخلافاً للسياق العام المتّبع منذ سنوات طويلة".

خيارات المودعين المحدودة

بالإضافة إلى العمولات المفروضة على إقفال ملفّات الإسكان، وضعت المصارف عمولات على الحسابات. وذلك من قبيل عمولة صيانة الحساب، وإرسال الإشعارات. ورفعت العمولات على السحب والايداع، من دون أن يكون باستطاعة العميل التصرف بالحساب. فسحب الوديعة على سعر صرف 15 ألف ليرة سيحمّله خسارة "هيركات" تبلغ 86 في المئة. إلى ذلك تمتنع المصارف عن تسديد الودائع بالليرة، وتضع سقوفاً عالية جداً بسبب نقص الليرات وارتفاع فائدة الانتربنك ووصولها إلى أكثر من 100 في المئة على الآجال القريبة. في حين سحب المبلغ بشيك مصرفي ووضعه في مصرف آخر سيلاقيان المعاملة نفسها، وسيُمنع المودع من اعتبار وديعته مكونة قبل 10 تشرين 2019، ويتم اعتبارها غير مستحقة. وتفضي هذه الإجراءات كلها إلى "تذويب الودائع"، بحسب الدبس. وبالتالي، تقليص المطلوبات على المصارف. ولم تصل جميع المطالبات للجهات المعنية من لجنة الرقابة على المصارف ومصرف لبنان ولا الدعاوى أمام المحاكم إلى أيّ نتيجة تنصف المودعين".

العمولات الأخرى

بالإضافة إلى العمولات على السحب والايداع والحوالات، التي أصبحت تحتسب في المئة بعدما كانت بالألف، "تفرض بعض المصارف عمولة على السحب من التعميم 158 تصل إلى 2 و3 دولارات على كلّ 400 دولار"، بحسب الدبس. "وذلك خلافاً لتوصية مصرف لبنان بعدم اقتطاع أيّ نوع من العمولات".

الحلول

الحلّ الوحيد لا يرتبط باتخاذ الإجراءات الزجرية ولا العقابية ولا حتّى الرقابية بحق المصارف. فكلّ ما سبق ذكره أثبت عدم جدواه خلال السنوات القليلة الماضية بسبب الحالة الفوضوية للأزمة اللبنانية وتشابك المصالح وتعقّدها. ولن يكون هناك من حلّ عملي إلّا بعودة الانتظام للعمل المصرفي وتحقيق الأرباح من طريقة العمل الكلاسيكية، المعتمدة على جذب الودائع والإقراض. عندئذ تحل مشكلة العمولات تلقائياً.