على ذمّة راسخين في علم الاستحقاق الرئاسي أنّ رئيس مجلس النواب نبيه برّي ابلغ أخيراً إلى المعنيين بهذا الاستحقاق من فرقاء سياسيين داخليين والمجموعة الخماسية العربية الدولية، أن لا مانع لديه من الدعوة إلى جلسة انتخاب رئاسية تنعقد في دورات متتالية إلى أن يُنتخب الرئيس الجديد. لكنّ برّي نبّه هؤلاء جميعاً إلى أنّ عملية من هذا النوع تنطوي على محاذير خطيرة، لعلّ أخطرها انتخاب رئيس غير متوافق عليه، أو يرضى به فريق ولا يؤيّده فريق آخر، ففي هذه الحال يمكن البلاد أن تدخل في حرب أهلية. فجميع الرؤساء الذين تولّوا رئاسة الجمهورية منذ إقرار "اتفاق الطائف" عام 1989 إنّما تم انتخابهم بالتوافق بين كلّ المكوّنات النيابية والسياسية مشفوعين بـ"التزكية التقليدية" العربية والدولية التي تشهدها جميع الاستحقاقات من هذا النوع منذ استقلال لبنان عام 1943. فماذا عدا مما بدا حتّى يتمّ الخروج الآن على مبدأ التوافق في وقت تحتاج البلاد إليه بشدة خصوصاً في ظلّ الانهيار المريع الذي تعيشه على كلّ المستويات.

لا تعويل جدّياً حتّى الآن على حراك المجموعة الخماسية العربية والدولية المتقطّع لتحقيق الاختراق المطلوب على مستوى الاستحقاق الرئاسي اللبناني، لأنّ ما طرحته لا يحمل جديداً وإنّما يأتي تكراراً ممجوجاً منذ المبادرة الفرنسية الشهيرة، وما تلاها من تحركات للموفد الفرنسي الرئاسي حيناً والخماسي أحياناً، وهو ما لم يخرج عمّا طرحه رئيس مجلس النواب نبيه بري منذ فجر الاستحقاق، وهو الذهاب إلى حوار أو تشاور للاتفاق على رئيس أو على صيغة لانتخاب رئيس بالتوافق على مرشّح أو بالتنافس بين مرشّحين اثنين أو أكثر.

لذلك لا يتوقّع حصول أيّ جديد رئاسي قبل انقضاء عطلة عيدي الفصح الغربي وعيد الفطر السعيد، في الوقت الذي كان المتوقّع ولا يزال إعلان هدنة لبضعة أسابيع في غزّة يمكن أن تمهد لوقف دائم لإطلاق النار هناك، وتالياً على جبهة لبنان الجنوبية علّ الهدوء المنتظر يهيّىء لمناخات داخلية لبنانية وإقليمية دولية تساعد على إنجاز الاستحقاق الرئاسي الذي باعتراف الجميع بات ضرورة لترتيب حلّ لمسألة الحدود البرية الجنوبية وتنفيذ القرار الدولي 1701 الذي يفرض أن تتولّاه سلطة لبنانية جديدة برئاسة رئيس جمهورية هو صاحب الصلاحية الدستورية في التفاوض على عقد المعاهدات الدولية.

وإلى أن تتبلور صيغة "الحلّ المتكامل" بين الحدود والداخل الذي يعمل الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكستين عليه بعيداً عن الأضواء بالتواصل مع الرئيس برّي، فإنّ حراك الخماسية العربية والدولية غير البعيد عنه، والمنسق مع برّي في اتجاه المسؤولين والمرجعيات الدينية والسياسية والكتل النيابية، يدفع في اتجاه حصول تفاهم عبر طاولة حوار أو تشاور أو أيّ صيغة أخرى للذهاب إلى انتخاب رئيس للجمهورية، عبر جلسات انتخابية متتالية يصرّ فريق المعارضة على المطالبة بها، في حين يتمسّك الآخرون بمبدأ انتخاب رئيس يتوافق عليه الجميع.

الاهتمام كان ولا يزال منصبّاً على الوضع السائد على الحدود الجنوبية، والذي يتفجّر حيناً ويتراجع أحياناً في ظلّ استمرار المخاوف من تطوّره إلى حرب شاملة

وقد واجهت المجموعة الخماسية إشكالية تتعلّق بشمول جولتها من عدمه رئيس كتلة "الوفاء المقاومة" النائب محمد رعد ورئيس تكتّل "لبنان القوي" النائب جبران باسيل، لتحفّظ الجانبين الأميركي والسعودي عن هذا الأمر في وقت كان رأي السفراء المصري والقطري والفرنسي مغايراً، ولم يعرف هل استعاضت المجموعة عن اللقاء مع رعد بلقائها مع الرئيس بري، وعن اللقاء مع باسيل بلقائها مع الرئيس السابق ميشال عون، فالحجّة الأميركية والسعودية هي أن حزب الله مصنّف "منظمة ارهابية" لدى واشنطن والرياض، وأن باسيل خاضع لعقوبات أميركية.

ولكن إلى ما بعد عطلتي الفصح والفطر، فإنّ الاهتمام كان ولا يزال منصبّاً على الوضع السائد على الحدود الجنوبية، والذي يتفجّر حيناً ويتراجع أحياناً في ظلّ استمرار المخاوف من تطوّره إلى حرب شاملة. ولكن حدّة التصعيد من عدمها غالباً ما ترتبط بطبيعة الأهداف التي يشملهز القصف المتبادل بين حزب الله وإسرائيل.

والمطّلعون على موقف حزب الله يؤكّدون أنّه لا يمكنه التوقّف عن إسناد المقاومة الفلسطينية في غزّة عبر جبهة الجنوب، ما دامت الحرب الإسرائيلية مستمرة عليها، لأنّه لا يمكن القبول بتصفية القضية الفلسطينية بدءاً بتصفية غزّة. وفي رأي الحزب انّه لا ينبغي لحركة "حماس" وأخواتها الخروج من هذه الحرب مهزومة.

ويقول هؤلاء المطّلعون إنّه بغضّ النّظر عن الموقف من تنفيذ "حماس" عملية "طوفان الأقصى" في موعد لم يكن منسّقاً مسبقاً مع حلفائها، لا يمكن إنكار أنّ هذه العملية وضعت المنطقة عموماً وليس القضية الفلسطينية فقط أمام تحوّل كبير ينبغي التعاطي معه بمسؤولية عالية، خصوصاً على مستوى الدّفع لتحقيق حلّ عادل لقضية فلسطين يأخذ في الاعتبار أن إسرائيل لم تعد لها اليد الطولى، حتّى تفرض الحلول التي تخدم مصلحتها على حساب مصالح العرب والفلسطينيين. ولذلك، يضيف المطّلعون على موقف حزب الله، أنّ تهديد إسرائيل باجتياح الجنوب اللبناني لا يعدو كونه تهويلاً، لأنّ المسؤولين الإسرائيليين يدركون أنّهم لا يستطيعون شنّ مثل هذه الحرب لمعرفتهم أنّ القوّة الصاروخية التي يمتلكها الحزب هي ذات إمكانية تدميرية عالية لا يمكن "القبّة الحديد" ولا "مقلاع داوود" أن يعوقاها، وقد لمسوا هذا الأمر من نماذج قصف قام به الحزب أخيراً وأصاب أهدافه بدقّة من دون أن تعوقه "القبّة" ولا "المقلاع".

وتحت وطأة الأولوية التي يعطيها الحزب للجنوب وغزّة، فإنّه، حسب أوساط قريبة منه، لا يتوقّف، بل لا يردّ على ما يتعرّض له من حملات داخلية وانتقادات سواء من الحلفاء أو الخصوم، فهؤلاء، في رأيه، يعرفون أنّه عندما سيتفرّغ للردّ عليهم في اللحظة المناسبة سيكون واقع الحال السياسي قد تبدّل في اتجاه دخول البلاد في مرحلة سياسية جديدة ربما تبدأ بانتخاب رئيس الجمهورية.

في المقابل تقول الأوساط المطّلعة على الموقف الأميركي "إنّ القوة الصاروخية التي يملكها حزب الله لا يمكنها أن تمنع نشوب الحرب واجتياح إسرائيل لمنطقة جنوب الليطاني". وتضيف: "واهمٌ من يعتقد أنّ الولايات المتحدة الأميركية تستطيع أن تضع خطاً أحمر أمام إسرائيل إذا قرّرت الأخيرة اجتياح جنوب لبنان، ففي حسابات الدولة العبرية وواشنطن أيضاً أنّ تقويض قوة حزب الله العسكرية في لبنان من شأنه أن يفقد إيران قوة الردع التي تمنع إسرائيل، وحتى الولايات المتحدة إلى الآن من قصف منشآتها النووية وغيرها. كذلك يعتبر الأميركيون والإسرائيليون أنّ وظيفة حزب الله في الحرب الدائرة حالياً ليست دعم القضية الفلسطينية بمقدار ما هي الإبقاء على القوة الرادعة التي تحمي إيران من أيّ محاولة لضربها، لأنّ الحزب إذا ضُرِب في لبنان فإنّ إيران ستنكشف، خصوصاً إذا عاد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض متغلّباً على الرئيس الحالي جو بايدن الذي تؤيّد إيران بشدّة بقاءه في الرئاسة الأميركية لولاية ثانية.

في سياق متّصل، يقول المطّلعون على الموقف الأميركي إنّ القيادة السورية تستعد من خلال تطوّر العلاقات بينها وبين دول الخليج العربي، وتحديداً المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، لاحتمال عودة ترامب إلى البيت الأبيض والتمهيد لترتيب العلاقات مع إدارته ولو عبر وساطة الرياض وأبو ظبي اللتين ترتبطان بعلاقات متينة جداً مع الرئيس الأميركي السابق ـ اللاحق. وفي مقابل ذلك، فإنّ سوريا دخلت على خطّ إنهاء الأزمة بين أبو ظبي والرياض وبين حزب الله، وهي استضافت لقاءات عدّة بينه وبين مسؤولين إماراتيين قبل أن يزور مسؤول وحدة التنسيق والارتباط في الحزب وفيق صفا أبوظبي قبل أيام. ويؤكّد المطّلعون أنفسهم أنّ صفا "ذهب حاملاً رسالة وعاد حاملاً رسالة"، وأنّ الوساطة السورية كانت بدأت بين الحزب وكلّ من أبوظبي والرياض منذ أن توقّف عن مهاجمتهما عبر المنابر ووسائل التواصل الاجتماعي إلى درجة أنّ الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله يواظب منذ ما قبل الاتفاق السعودي ـ الإيراني في آذار 2023 على عدم التعرّض للسعودية والإمارات سواء في إطلالاته الإعلامية أو في خطبه خلال المناسبات الحزبية والسياسية. ويقال أنّ هذا الأمر توسّط فيه الجانب السوري لدى قيادة حزب الله بناء على رغبة الرياض وأبوظبي، أو بمبادرة شخصية منه لإنهاء الأزمة بين الجانبين التي نشأت إثر اندلاع حرب اليمن.

ولذلك يقول المطّلعون على الموقف الأميركي إنّ دمشق تريد أن تخطب ودّ الإدارة الأميركية الترامبية الزاحفة الآن في الطريق إلى البيت الأبيض وذلك عبر وساطة الرياض وأبوظبي، ويؤكّد هؤلاء "أنّ هذا الأمر هو البعد غير المكتوب في العلاقة المتطورة بين القيادة السورية وكلّ من السعودية والإمارات، والذي تريد سوريا منه في النهاية إقامة علاقة جيدة مع الإدارة الترامبية للتحرّر من قانون قيصر وسواه من العقوبات الأميركية والغربية المفروضة عليها. والتحسّن في العلاقة بين الرياض وأبوظبي وبين حزب الله وقبله بينهما وبين إيران إنّما تراه دمشق يصب في مصلحتها أولاً وأخيراً.

وفي سياق متصل يقول المطلعون على الموقف الأميركي أنفسهم "أنّ هناك حواراً غير مباشر يدور بين الإدارة الأميركية وحزب الله ويتمّ عبر خطّين: الخط الأول مع الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكستين وذلك عبر رئيس مجلس النواب نبيه بري. والخط الثاني عبر أبوظبي الذي أمنته الوساطة السورية.

ولا يستبعد هؤلاء أنّ تطوّر العلاقة إيجاباً بين أبوظبي وحزب الله سينسحب تطوّراً مماثلاً في العلاقة بين الرياض و"الحزب" تماماً كما تطورت العلاقات بين أبوظبي ودمشق أولاً، لتتطوّر بين الأخيرة والرياض ثانياً.

‏على أنّه لا يغيب عن اهتمام المتابعين للموقف الأميركي الإشارة إلى وجود ما يسمّونه "وجه شبه" بين عملية "طوفان الأقصى" التي نفّذتها حركة "حماس" على المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة والحفل الموسيقي الذي كان يقام في إحداها، وبين الهجوم الذي نفذه تنظيم "داعش" على الحفل الموسيقي في ضاحية موسكو.

ويقول هؤلاء المتابعون "بغضّ النظر عن تبني "داعش" للهجوم في ضاحية موسكو، فإنّ هذه العملية هي عملية استخباراتية دولية كبيرة جداً تتّصل بأهدافها ورسائلها بالنزاع الدولي القائم من أوكرانيا إلى الخطّين الاقتصاديين ـ السياسيين الصيني والهندي، وربما يكون المراد من الهجوم في ضاحية موسكو النيل من القيادة الروسية المتّهمة في مكان ما بتشجيع عملية "طوفان الأقصى". ولكنّ المسألة تبدو أبعد من ذلك بكثير. علماً أنّ المنفذين "الدواعش" لهذه العملية يعتبرون أنّ لديهم ثأراً لدى القيادة الروسية التي تخوض حرباً بلا هوادة عليهم منذ حرب الشيشان وصولاً إلى الحرب السورية وما بينهما، ولكن كلّ هذا يبقى تفصيلاً صغيراً لأنّ من دفع إلى عملية من هذا النوع يريد أن يصيب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مقتلاً، ولن يطول الوقت حتّى تتكشّف كلّ الأهداف الكامنة خلف هذا الحدث الكبير والخطير.