يشكل تاريخ 15 حزيران، الموعد الذي كان محدداً لإجراء المفاوضات بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران، حدّاً فاصلاً بين مرحلتين بعد شن إسرائيل هجومها الكبير على إيران وكل ما تبعه.

ويمكن اعتبار مدة الأشهر القليلة الماضية رغم محدوديتها زمنيا، شهرَ عسل قصيراً بين الدولتين اللتين فرّقهما العداء منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران العام 1979.

وكانت المفارقة أنّ شهر العسل هذا حصل في عهد الرئيس دونالد ترامب، الذي حاول مسك العصا من المنتصف، بعد وصول المفاوضات مع الإيرانيين الى مرحلة الجدّ.

هو لم يكن يريد حربا معهم ولا يزال. لكنه، بعد اعتباره أنّه وفّر فرصة لهم، أراد إعادتهم الى طاولة المفاوضات مضرَّجين بالدماء ومقدِّمين التنازلات التي يريد، في نصر ديبلوماسي سلمي موجَّهٍ ايضا داخلياً ضد كل معارضي سياسته نحو إيران والمتعاطفين مع إسرائيل من الصقور الذين يعارضون أي اتفاق شبيه بالاتفاق النووي السابق العام 2015، وهو الذي سمح لإيران بتخصيب محدود في مقابل رفع تدريجي للعقوبات.

كان من المتوقع أن تكون مرحلة التفاصيل هي الأكثر جديّة في المباحثات.

ففي البدء كانت المباحثات في الإطار العام وكلما اقترب الجانبان من التفاصيل كانت الأمور تتعقد، وتتضح للأميركيين حقيقة الموقف الإيراني التي لم تتغير في الجوهر منذ المفاوضات مع فريق الرئيس الأسبق باراك أوباما.

طبعا حاول الإيرانيون كعادتهم التذاكي على الأميركيين، وهذه المرة على ترامب، بتجاهل فرصة الشهرين لتوقيع اتفاق معه. ولعلّ هذا كان سبب رغبتهم إجراء الجولة السادسة الأحد الماضي في 15 حزيران بعد انتهاء فترة الشهرين التي وفّرها ترامب لهم، في رسالة قوة موجهة لواشنطن كما لإسرائيل.

وكان أن توقفت المفاوضات أساساً عند مسألة تخصيب اليورانيوم.

في البدء تركز الحديث الأميركي على التخصيب العسكري، أي الوصول الى تصنيع السلاح النووي، ووافقت طهران على التخلي عنه في ما اعتبرته تنازلاً كبيراً يجب أن تُكافأ عليه. لكن واشنطن كانت تطمح إلى منع التخصيب الإيراني كلّه، وهو التخصيب الذي تحتاجه إيران في تنميتها وأبحاثها العلمية والطبية، وكان من الطبيعي أن ترفض المطلب الأميركي. وهذا للمناسبة موضوع إجماع إيراني.

خاض الطرفان في التفاصيل الدقيقة، وكانت المسألة بين رئيس الوفد الإيراني وزير الخارجية، عباس عرقجي، ورئيس الوفد الأميركي، ستيف ويتكوف، تدور حول نسبة تخفيض التخصيب، بما يطمئن الأميركيين ليرفعوا في المقابل العقوبات عن إيران في شكل شامل.

ودار حديث حول الضمانات التي من المفترض أن تقدمها واشنطن لديمومة الاتفاق. وكان الإيرانيون حذرين دوماً من خطاب الأميركيين وينتظرون تعهُّداً بأن واشنطن لن تنسحب من الاتفاق النووي كما فعل ترامب نفسه الذي يريد اليوم الاتفاق.

مخارج لم ترَ النور

لم تأت تلك التعهدات وكان الغموض يكتنف المفاوضات من الجانبين وسط مسلَّمة إيرانية برفض الوقف الكامل لتخصيب اليورانيوم وتفكيك المنشآت والسماح لمفتشين أميركيين بتفتيش تلك المنشآت تحت مظلة "الوكالة الدولية للطاقة الذرية". فهم يرون أن التخصيب حقّ لهم بموجب معاهدة عدم الانتشار النووي، وحرمانهم إياه يتجاوز خطاً أحمر وضعوه منذ زمن.

وقد طُرحت مخارج عامّة هنا. مثل التخصيب داخل إيران لكن بإشراف دول أخرى مثل جيران لإيران أو روسيا، والطرح الأخير لقي حماسة أميركية ورفضته طهران، وبينما كانت العروض في إطار الأخذ والرد وكانت طهران تُحضّر أحدها، جاءت الضربة الإسرائيلية التي اتهم الإيرانيون واشنطن بتوفير الضوء الأخضر لها.

لذا بقيت طروحات المخارج في الإطار العام، وانهارت المفاوضات مع أن الإيرانيين يؤكدون أن ترامب تعهّد بعدم ضربهم، وهو أكّد ذلك جهاراً.

ومع أن الأميركيين أعربوا عن رغبتهم في استئناف المفاوضات، فإن الإيرانيين لن يعودوا من موقف الضعيف إلى التفاوض على أقل تقدير وليس قبل انتهاء الحرب عليهم.

وستكون أولويتهم الخروج سالمين ثم ترميم الذات، وهم باتوا اليوم أمام مفترق طرق: إما السيناريو الليبي، أي تسليم كل شيء، وهم ما ليسوا في صدده لأن نتيجته معروفة وهي إسقاط النظام. وإما السيناريو الكوري الشمالي الذي أدى الى تحصين ذلك النظام من أي هجوم، وإصدار المرشد الإمام علي خامنئي فتوى جديدة تشرّع اسلحة الدمار الشامل مع حلول الخطر الداهم، ينقض بها فتوى معاكسة أصدرها العام 2003، للمضي في التخصيب إلى أعلى مستوى والتحوّل إلى دولة نووية وطرد مفتشي الوكالة الدولية والانسحاب من معاهدة الحظر النووي، وبالتالي التمرد على الشرعية الدولية وربما إجراء تجربة نووية.

ومهما كان التدمير الذي ستحققه إسرائيل للبرنامج النووي الإيراني، وهي تعترف أصلا بأنها لن تتمكن من تدميره بالكامل لوحدها، فإن إيران تستطيع إعادة بنائه تقنياً لامتلاكها التكنولوجيا والأجهزة والموارد.

والواقع أن محافظين داخل إيران يضغطون لذلك كون التهديد الوجودي للنظام يتصاعد والاستقرار في المنطقة قد يهتز. وإذا تعزز هذا الواقع فستزداد حظوة هذا الرأي ويتخذ المرشد قراره.

لكنّ إيران تسير على حافة الهاوية بين الخيارين، وقد لا تصل الى السيناريو الكوري وربما تقترب من سيناريو شبيه، لكن في كل الأحوال ما بعد الحرب الاسرائيلية عليها لن يكون كما قبلها، مثلما أن تداعيات ذلك لن تكون مشابهة.

والمرحلة المقبلة صعبة على الإيرانيين، فالبلاد أصلا تحت وطأة أزمة اقتصادية كبرى، وكان الإيرانيون يأملون رفع العقوبات، وفي أحسن الأحوال سوف تبقى العقوبات وسوف تُشدَّد وتتفاقم الأزمات الاجتماعية والإنسانية بعد الضربات. وتأمل إسرائيل أن يوفّر أرضية للمعارضين الجذريّين للنظام للتحرك.

وفي أسوأ الأحوال قد تدخل إيران في حروب إقليمية وربما تصطدم مع المصالح الأميركية وقد تتهدّد داخليا، بينما لن يكون هناك متّسعٌ زمنيٌ كافٍ لاعتماد النموذج الكوري، أو لن يُسمح لها بالوصول إليه.