أعلنُ ما لم يسبِقْني إليه أحدٌ، ربَّما: نظرةٌ إلى الكتابة تخالفُ الأوَّلين جميعًا، وقد تصدِمُ الأخيرين... لكنَّها نظرتي النَّابعة من خبرةٍ وطولِ باع في دنيا الحبر والورق، وفي اكتناهِ سرِّ العجينةِ والخميرةِ.

ولكن قبلُ، فلأُعرِّف بالنَّثر والنَّاثر، لأختِمَ بتلك النَّظرة:

ليسَ كلُّ ما يخطُّه الحبرُ كتابةً...

وإذا لمع، من بعيد، فلا تظنَّنه ذهبًا.

قد يكون سرابًا، وما أدراك ما السَّراب؟

ولأنَّ الله خلقنا على صورته، كمثاله، وددت أكونُ ظلَّ نبيٍّ على الورق، أدبًا ولغةً، لا سرابًا، فأسمحُ لصوتي أن يتلوَ على مسامعكم عشرَ وصايا في النَّثر... وإن كان حتَّى الظِّل مرذولًا، وإن كان بحرُ الكلام لا يحتاج إلى عصا ليُشَقَّ.  

وصايا النَّثرِ العشر:

أناثر أنت؟ كن إزميلَ حرفٍ، واجعل ضرباتِه تقوِّس الحجر خصرًا، وغبارَ النَّحتِ غِلالةَ نومٍ على جسدٍ عارٍ.

أناثر أنت؟ اقْبِضْ على اللُّغة، نحوًا وصرفًا، فصاحةً وبلاغةً، بكلا روحِك والدَّهَش، واجعلها عجينة في يديك... لا يطوِّعُها ويليِّنُها سوى ماءِ شعورك الدَّافق كنبع.

أناثر أنت؟ لا تشبه أحدًا غيرَ قلمِك. قامة مستقيمة، تبقى مستقيمة، ولو نفِد الحبر.

أناثر أنت؟ دعِ الكلمات تأتي إليك، ممَّا جمَّعْتَ وراكَمْتَ طويلًا في "قُجَّة" لا وعيك. دعها تأتي وهي تحمِلُ سُعُفَ الفرح، لحظةَ دخولك قُدْسَ الكتابة، فتزدانَ السُّطور بشعانين الرِّضى، ويبقى قيافا العجز والنِّسيان، في هيكله المدنَّس.

أناثر أنت؟ رتِّب العبارات بما يجعلها مزمورًا ملحَّنًا، على أرغن رحبانيٍّ، أو آيةً يجوِّدها، ليس أقلَّ من أذانِ بلال، ذات فجر.

أناثر أنت؟ تجرَّأ، حين تكونُ العارفَ الأمثلَ، على الشَّكل، من دونِ أن تمسَّ الجوهر... فليس الشَّكلُ قالَبًا جامدًا أو موروثًا تقليديًّا. حرِّره من أسرٍ طال. واسجد أمام مذبح الجوهر، سجودَك أمامَ قربان.

أناثر أنت؟ اخترْ فاكهةَ بستانِك ممَّا تحبُّ وحسب، فيتذوَّقَك من يقرأُك، ومن مذاقِكَ يعرفُك، لا من اسمِك المطبوع... أعلى النَّص أو أدناه.

أناثر أنت؟ اطْردْ شياطينَ الحشوِ والإطناب، من هيكلِك، فبيتُك ليسَ مغارةً للصوصِ الكلام.

أناثر أنت؟ كن ناقدَ نفسك أوَّلًا، ألهذه النَّفس كنت تكتب، أم لغيرها. فالكتاب المنشور، على ما يقول أنسي الحاج، وردةٌ في حقل ألغام.

جميلٌ أن يضوعَ العطر، والأجمل ألَّا تتناثرَ الوردةُ أشلاء.

أناثر أنت؟ لا يخدعنَّك إعجابٌ افتراضيٌّ، في عالم افتراضيٍّ... أو إطراء افتراضيٌّ لغاية افتراضيَّة... فيكونَ ما تنشره افتراضَ كتاب.

مهَّدتُ بهذه الوصايا لأقول:

إن لم تكنِ الكتابة، أيُّ كتابة، هي الجمالَ الجمالَ، فلنُمْضِ ما تبقَّى من عمر نتشافَه، ولا نتركنَّ قُصاصةَ ورقٍ خلفنا، إلى أن يُقرعَ جرسُ القيامة.

وإن لم تكنِ الكتابة، أيُّ كتابة، بمثابة كتاب مقدَّس، فعبثًا نفلفشُ صفحاتٍ، ونقرأ.

وإن لم تكنِ الكتابة، أيُّ كتابة، مدًى يتجاوز الآماد، وأفقًا يحلِّق فوق الآفاق، لا تَعُدِ النُّقطةُ في آخر السَّطر، سوى نُقطةٍ في بحر، ولا تشبهِ القافيةُ سوى فاصلةٍ بين لا شيء ولا شيء.

صعبةٌ، لا بل مستحيلة، هي الكتابة، إذ يجتمعُ فيها ثالوثُ الجمالِ والقدسيَّة والإعجاز. إذا آمنتَ بهذا الثَّالوث واعتنقتَه مبدأً... فاكتب. وإذا بهِ كفرتَ، ورفضتَه، فارمِ خَيالك وقلمَك والورقة في أوَّل سلَّة مُهملات، تطالعُك على أوَّل قارعة طريق، كأوَّلِ ما يمكن أن تخدِمَ به الكتابة، وأعظم.

مهلًا، وسيأتيك بالنَّظريَّات من لم تزوَّدِ.

الكتابة، إذًا، هي هذا الثَّالوث، وليس إلَّاه. فأيُّ فرق، ساعتذاك، بين الشِّعر والنَّثر؟ وكيف نميِّز أحدهما عن الآخر؟

نميِّز بالشَّكل...

وعليه، لا يعود الشِّعرُ سوى شكلٍ، له قواعده وأوزانه، الخليليَّة وغيرُها، وقوافيه ومفاتيحه وخياله وأحاسيسه وصوره، يختلف عن النَّثر، الذي له أيضًا قواعده ومفاتيحه وخياله وأحاسيسه وصوره وأساليبه.

النَّثر والشِّعر، قلْ ولا تخف، تجرَّأ وقل: وجهان لقربانة واحدة. جوهرُ تناولِهما واحد، وطعمُهما واحد، واليد الَّتي تُناولهُما مغطوطين بخمر الحبر واحدة، فلا يختلفان إلَّا في أيِّ وجه من الوجهين، رسا على اللِّسان قبل.

بربِّكم... هل من فرق، ضمن ثالوث الكتابة الَّذي إليه أشرت، بين "رندلى" سعيد عقل و"كتاب الورد"، إلَّا شكلًا؟

هل من فرق بين "الحبيب الأوَّل" لأمين نخلة (من ديوان "دفتر الغزل"، و"صلاة العنز" (من كتاب المفكَّرة الرِّيفيَّة)، إلَّا بالشَّكل؟

هل من فرق بين "الخصر والمزمار" لجوزف حرب، ومقالته النَّثرية في غسَّان مطر مثلًا، إلَّا من حيث الشكل؟

هل من فرق بين "قنديل السَّفر" لموريس عواد و"التِّصويني"، سوى ذاك الشَّكل؟

وبربِّكم، وفي المقابل، وعلى سبيل المثال لا الحصر، ما الفرق بين "أغرى امرؤ يومًا غلامًا جاهلًا"، وبيانٍ لقوى الأمن الداخلي عن محرِّض دفع امرءًا ما إلى قتل والدته، طمعًا بمالها... إلَّا في الشَّكل، لا في المضمون.

الشِّعر عند العرب، هو أوَّل ما بلغ إلينا منهم.

مرحًى بالمعلَّقات.

لم نعرفِ النَّثر عنهم إلَّا لاحقًا، حين بدأ التَّدوين والكتابة والنَّسخ.

كان الشِّعر، بموسيقاه وقوافيه، يسهِّل عليهم حفظ الحكم أو العبر، أو حتَّى تأريخ لحظات ومناسبات، مرحًى لسِقط اللِّوى بين الدَّخول فحوملِ.

وسبقهم إليه العبرانيُّون والسُّريان، موزونًا دائمًا، وغير مقفًّى أحيانًا... إلى أن تزوَّج الوزنُ القافية.

وحين توفَّر الخليلُ بن أحمد الفراهيدي على دراسة الشِّعر العربيِّ، رتَّبه في خمسة عشر وزنًا. وما تداركُ الأخفش البحرَ السَّادس عشر، وإسقاطُ بحرين بحجَّة أنَّهما غير موسيقيَّين، إلَّا كوَّةٌ فُتحت في ما يسمَّى القالب الشعري، على أوزان جديدة أو محتملة، فكان في ما بعد الشِّعر الأندلسيُّ والموشَّحات، ومن ثمَّ شعرُ التَّفعيلة.

مصيبتنا، في هذا الشَّرق، أنَّنا أغنينا العالم بالفكر والأساليب، حتَّى إذا انحطَطنا، ثمَّ نهضنا، استعدنا من الغرب ما أعطيناه، وحاولنا إسقاطه على لغتنا وأدبنا، فسقطنا في التَّقليد اللَّاواعي الأعمى... ورحنا ننظِّر ونبرِّر.

في أيِّ لغة غربية، وفي صوغ القصيدة بخاصَّة، ليس من تفعيلات تقوم إلَّا على المقاطع، وهي مقطع واحد يسمَّى في علم العروض "السَّبب الخفيف" أي الحركة والسكون، يتتاليان. وعليه كيفما كتبت، يستقيم الوزن، بموسيقى لا لَبس فيها، وبإيقاع غير مشوَّه... وهذا ما لا يجوز في الشِّعر العربيِّ واللُّبناني، إلَّا إذا صدَّقنا من يتحدثُّون عن إيقاع داخليٍّ، كحجَّة ربَّما للهرب من الوزن والقافية اللَّذين ربما يجهلونهما ويقصِّران عن خوض غمارهما، وكثرٌ منهم لا يفرِّقون بين الطَّبلة والطَّبل.

الوزن والقافية هما أكثر ما يحرِّر الشَّاعر، إذا أراد أن يبدع. فيجعلان عقله وخياله يتَّسعان أكثر، كي يتجاوز القالب الجامد أو المألوف، إلى ما هو غير مسبوق. 

فأين تكمن المشكلة إذًا؟

تكمن في أنَّ للقب الشَّاعر، كموروث ثقافيٍّ وإنسانيٍّ، مكانةً لم ينلْها في الوجدان لقب النَّاثر.

لكنَّ لقب الأديب وُجد كي يثبت نظريَّتي الآنفة الذِّكر وطول الشرح. الأديب هو الشَّاعر والنَّاثر معًا. أي إنَّه حارس عقيدة الثَّالوث الكتابيِّ، جمالًا وقدسيَّة وإعجازًا، بشكليه النَّثريِّ والشِّعريِّ.

... وبعد؟ كلُّ الحكاية، شكلٌ ليس إلَّا.