أن يفعل المرء الشيء ونقيضه وصولاً إلى غاية ما، أمر يمكن فهمه، أمّا أن تتحوّل هذه الطريقة الملتوية إلى أسلوب حكمٍ، فهذا ما لا يمكن استيعابه. ففي الوقت الذي تدّعي فيه السلطة، نظرياً، مكافحة تجارة الشيكات، ومعاقبة أصحابها بإقصائهم من التعميم 166، وحرمانهم من الاستفادة الدولارية النقدية من حساباتهم اللولارية، تدفع فعلياً إلى تعزيز هذه التجارة. وهذا ما لا يتوافق مع المطالب الدولية بالقضاء على الاقتصاد النقدي من جهة أولى، ويلحق بالمتعاملين خسائر مادية كبيرة لا يمكن تعويضها من جهة ثانية.
أستاذ في التعليم الخاص فوجئ باشتراط المصرف تجميد شيك تعويض نهاية الخدمة الذي تقاضاه بالليرة من "صندوق التعويضات لأفراد الهيئة التعليمية في المدارس الخاصة"، لمدّة ستة أشهر. ومن ثمّ يقسّط المبلغ على دفعات شهرية، ولا يدفع نقداً مرة واحدة. وبسبب حاجة الأستاذ إلى السيولة باع الشيك في السوق الموازية بحسم وصلت نسبته إلى 20 في المئة. وعدا القيمة الزهيدة للتعويض التي لا تبدّل بحفنة من الدولارات، خسر الرجل 200 ألف في كلّ مليون ليرة قبضها. وهذا ما يمثّل قمّة الإجحاف بحق المتعاقدين.
مصارف ترفض الشيكات بالليرة
الصدمة التي تلقّاها الأستاذ المتقاعد لدى تجميد شيك تعويضه، ومن ثم تقسيطه على دفعات، ما هي إلا واحدة من القضايا الأساسية التي تناضل نقابة المعلّمين في المدارس الخاصّة من أجل حلّها. والأمور لا تقف عند حدّ طلب تجميد الشيك، إنّما تأخذ في أحيان كثيرة منحى "رفض المصارف استقبال الشيكات، وعدم تسديد المبلغ نقداً بعد التحصيل، إنّما وضعه في بطاقة مصرفية Debit Card تستخدم في عمليات الشراء"، يقول نقيب المعلّمين في المدارس الخاصة نعمة محفوض. وفي ظلّ رفض أكثرية نقاط البيع، من متاجر ومحطات محروقات... وغيرها، التعامل ببطاقات الليرة البنكية (عكس النقدية)، تجنّباً لاحتجاز المبالغ المقبوضة، يعجز المتقاعدون عن التصرّف بأموالهم. علماً أنّ الكثير منهم يحتاجون إلى قبض التعويض نقداً، ودفعة واحدة، لفتح مشروع صغير، أو تسديد دين قديم، أو تأمين حقّ تذكرة سفر للهروب من هذا البلد، أو حتّى تحويله إلى الدولار للحفاظ على قيمته. وينتظر النقيب محفوض تحديد موعد مع حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري خلال الأيام المقبلة، من أجل البحث في هذا الموضوع وإيجاد حلّ له ينصف المعلّمين المتقاعدين. وذلك على غرار ما حصل مع التعويضات التي يتم تقاضيها من الضمان الاجتماعي. إذ توصّل الأخير إلى صيغة عمل مع المصارف تقضي بتسديد التعويض نقداً ودفعة واحدة.
أصحاب الرواتب التقاعدية ليسوا أفضل حالاً
في المقابل، فإنّ وضع المعلّمين الذين يختارون تقاضي راتب تقاعدي، بدلاً من تعويض نهاية الخدمة، ليس أفضل حالاً. فمن بعد تقاضي راتب تقاعدي يوازي ستة أشهر في كانون الثاني وشباط الماضيين على خلفية الاتفاق بين النقابة والمدارس الخاصّة، لم يحصل المعلّمون المتقاعدون هذا الشهر إلّا على راتب واحد"، يقول محفوض، "لأنّ هناك 800 مدرسة خاصة من أصل 1300 لم تسدّد المطلوب منها وفق الاتفاق". والمدارس لا تزال تدفع إلى صندوق التعويضات على سعر الصرف القديم 1500 ليرة. ومع وصول الحدّ الأدنى للأجور إلى 18 مليون ليرة، لا يزال راتب الأستاذ الثانوي المتعاقد 1.5 مليون ليرة، أي 16 دولاراً! فهل من عاقل يمكن أن يقبل بهذا الواقع؟
الأسباب النقدية وراء تجميد الشيكات
مشكلة "احتجاز" الشيكات، أو تطلّبها من الناحية التقنية ستة أشهر للتحصيل تعود إلى "نوعية العلاقة بين المصارف التجارية ومصرف لبنان، الذي يؤمّن السيولة للمصارف بالليرة والدولار، باعتراف الحاكمين رياض سلامة ووسيم منصوري"، يقول خبير المخاطر المصرفية الدكتور محمد فحيلي. "تطلب المصارف تجميد شيكات التعويضات أو غيرها من الأنواع، لتتدبّر تأمين السيولة من ناحية وكيفية احتسابها من مصرف لبنان من ناحية أخرى". فالمركزي يضع ضوابط قاسية على السيولة بالليرة ويحاول بشتّى الوسائل تفاديها تجنّباً لتحوّلها طلباً على الدولار، وهذا ما يُخفض سعر الصرف ويرفع التضخّم.
باختصار، فإنّ السيولة بالليرة اللبنانية غير متوفّرة في المصارف، ومصرف لبنان يتفادى تأمينها بالأوراق النقدية خوفاً من استغلالها بالمضاربة والعودة إلى الحقبة التي كانت فيها الأوراق النقدية بالليرة اللبنانية متوفّرة بشكل كبير وأدّت إلى اضطرابات في سوق القطع"، برأي فحيلي. الأمر الذي يدفع إلى إجراءات عدة، كتجميد الشيكات مدة طويلة، واشتراط عدم قبض المبالغ نقداً إنّما وضعها في البطاقات المصرفية واستعمالها حصراً في المشتريات من عدد قليل من المحالّ والمتاجر".
المخاطر دائماً موجودة
الإجراءات المتّبعة لتقليص الكتلة النقدية بالليرة، تجنّباً لعودة الضغوط التضخّمية تحمل مخاطر كبيرة جداً على الأفراد. فمن يضمن عدم ارتفاع سعر الصرف بعد ستة أشهر إلى ما كان عليه قبل نحو سنة، أي نحو 140 ألف ليرة مقابل الدولار. وعليه، تخسر التعويضات التي جمّدت ستة أشهر 50 في المئة من قيمتها فوراً. وهو ما يشجّع على تجارة الشيكات من جهة، وارتفاع نسبة الحسم من جهة أخرى. فكلّما كانت الشكوك في إمكانية تغيّر سعر الصرف في المستقبل القريب كبيرة، زادت نسبة الحسم عند بيع الشيكات في السوق الموازية والعكس صحيح أيضاً. وبرأي فحيلي "إن لم يتمّ توفير إمكانية استعمال الشيكات في تسديد المتوجبات المختلفة، سواء كانت معاملات تجارية أو فواتير استشفائية أو أقساطاً تعليمية، فلا يمكن إيجاد حلّ للفرق بين السيولة المتوفرة والسيولة المطلوبة. والفرق هذا يعود بشكل أساسي إلى فقدان الثقة وغياب الإرادة عن اتخاذ الإجراءات الإصلاحية". مع العلم أنّ توفير الليرة وعودة تداولها بالشيكات يعتبران امراً سهلاً لكونه لا يتطلّب توفر سيولة خارجية مقابلها، على عكس الدولار. ولكن المشكلة التي ستواجه مصرف لبنان، برأي فحيلي، هي عندما تصل الأمور إلى المستفيد النهائي أو صاحب الحقّ الاقتصادي للاستفادة من الشيكات المصدّرة. ففي هذه المرحلة ينبغي تحويل الشيكات إلى ليرات نقدية من أجل تحويلها إلى الدولار وتأمين أثمان المستوردات. وفي هذه المرحلة بالتحديد، يحاول مصرف لبنان تفادي "فلش" الليرات كيلا تتحول طلباً على الدولار. ووفق هذا المنطق نفسه، يرفض أصحاب المؤسسات التجارية والخدماتية الشيكات أو البطاقات، لأنّ المزوّد يطلب القبض نقداً.
التعامل بالشيكات ينخفض دراماتيكياً
لتبيان التراجع الكبير في التعامل بشيكات الليرة، أظهر التقرير الاقتصادي الذي تصدره جمعية المصارف انخفاض نسبة الشيكات المتقاصة في العام 2023 بنسبة 88 في المئة مقارنة بالعام 2020. إذ تراجع عدد الشيكات المتداولة من مليونين و856 ألفاً في العام 2020، إلى 341 ألفاً في العام 2023. في حين بلغت قيمة الشيكات المتقاصة في العام الماضي 6060 مليار ليرة لبنانية.