القسيس إدكار طرابلسي، قبل أن يكون نائبًا عن دائرة بيروت الثانية، عن المقعد الإنجيلي، هو صاحب باع طويل في تأليف الكتب والنشر. صدر له، حتى أمس، عشرة كتب، محورها الدين والفلسفة والفكر، وغايتها الإنسان بخيره وخلاصه.

في كتابه "ستون"، وهو باقة مقالات كتبها في أكثر من موضوع، يدخل بنا عالم الاجتماع والعلاقات الإنسانية، أكثر منه اللاهوت والأسئلة الكبرى، لعل أهمها موضوع الموت، في كتابه ما قبل الأخير "رحلة الموت".

... أمَّا وقد عبَرَت السِّتُّون بكلينا، يا رفيقَ العمر، فسأشكو للقسيس الصديق منذ أكثر من أربعين سنة، سرًّا، أمرَ تلكَ السِّتِّين، الَّتي سَبَقْتُكَ إليها بثلاث. أشكوها، ولكن في كرسيِّ اعترافِ صداقتنا، لا على الملإِ:

سِتُّونَ لَا عُمْرِي وَلَا زَمَنِي

مَرَّتْ كَأَنِّيَ كُنْتُ... لَمْ أَكُنِ

وَكَمِثْلِ مِحْبَرَةٍ نَزَفْتُ، وَمَا

وَجِعَتْ ضُلُوعِي أَوْ بَكَى شَجَنِي

غُصْنًا بَقِيتُ، وَمَا الظِّلَالُ؟ يَدِي

طَالَتْ تُرَاقِصُ قَامَةَ الْغُصُنِ 

وَكَمِثْلِ حَوْرٍ مَالَ بِي قَلَمِي

حَتَّى جَعَلْتُ حَفِيفَهُ وَطَنِي. 
سِتُّونَ، لَا زَبَدِي وَأَشْرِعَتِي،

عَبَرَتْ كَأَنَّ الْبَحْرَ فِي سُفُنِي

جَمَعَ الشَّوَاطِئَ سُبْحَةً وَمَضَى

يَتْلُو صَلَاةَ الْحِبْرِ لِلْمُدُنِ.

سِتُّونَ، قَافِيَتِي غَدَتْ وَثَنًا

وَتَعِبْتُ أَعْبُدُ، بِالتُّقَى، وَثَنِي،

وَغَدًا إِذَا مَرَّتْ وَلَوْ سَنَةً

بِي بَعْدُ، قَدْ أَغْدُو بِلَا سَكَنِ،

مُتَشَرِّدًا فِي الْأَرْضِ يَبْحَثُ عَنْ

مُتَشَرِّدٍ لِيَخِيطَ لِي كَفَنِي.

أتعبَتْني سِتُّوني. وأتعَبني الحبرُ، وما تُبتُ، ولن أتوب.

فماذا عن ستِّينك يا صديقي، وقد نالتْ منها الكَلمةُ عشرًا من الكتبِ، ومئاتٍ من المقالاتِ والعظات؟

لن أنتظرَ جوابك. بل أجيب عنك لأؤكِّدَ على الملإِ أن ستِّينَك ما كانت رصفَ سنواتٍ، أو عددًا ترتيبيًّا في روزنامةِ العمرِ، بل توَّجْتَ بها مَسارًا غنيًّا لَمَّا ينتهِ، ولن، على دربِ القيمِ الإنسانيَّة والخُلُق الرُّوحيِّ والحقيقة السَّاطعة والحرِّيَّة الحرِّيَّة، حتَّى اقترن اسمُك وصورتُك بالصِّدق والصِّدقيَّة.

في مولودِك العاشرِ هذا، يا السَّائرَ على هَدْي كلامِ الرَّبِّ: "أعطِ ما لقيصرَ لقيصرَ وما للهِ لله"، وقد فصَّلت ذا الكلامَ في مؤلَّفِك المميَّزِ "أصحابُ السِّيادة"، كَأَنِّي بِكَ تأخذُ بقولِ الشَّاعر المخضرمِ الحُطيئة:

تَحَنَّنْ عَلَيَّ هَدَاكَ الْمَلِيكُ

فَإِنَّ لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالَا.

وإذ تستخلصُ من السِّياسةِ والمجتمعِ والدِّين عِبَرًا، وتسألُ في كلٍّ منها عن مقامٍ، ليكونَ للمقامِ مقالٌ، كأنِّي بك صحافٌّي قبل تكونُ لاهوتيًّا قِسًّا على مذبحِ الكنيسة، إنَّما تأتي مقالتُك موقفًا لا لَبس فيهِ، فتكونُ نَعمُك نعمًا، ولاؤك لا... ولا مكانَ للشَّياطين بينَهما... وبينَنا.

مذ بدأتَ تكتُبُ في المسيحيَّة، لم تتبعْ من قال باللُّغة الصَّعبة للَّاهوت الصَّعب. بل سَلَكْتَ دربَ المسيح السَّهلةَ في التَّعبيرِ، حين شرحَ وبشَّر بلغةٍ أقربَ إلى البسطاءِ منها، إلى الفلاسفة، فغصَّ الإنجيلُ بالأمثال. وما كلُّ مثلٍ ورد فيه إلَّا مقالةٌ، كأنِّي بالسَّيِّد المسيحِ صحافيُّ القيم، ونحن على تلك الدَّربِ اخترنا نسير.

صحافيٌّ هو المسيح أيضًا. مهَّد الدَّربَ لسُلطانِ الكلمةِ تقول وتفعلُ وتغيِّر. كيف لا وهُو البَدء؟ سبقه كثرٌ إلى كلمة ما، لكنَّها بقيَتْ متبوعَةً بعلاماتِ استفهام وتعجُّب، فلم تَكْتَمِلْ، وسمُّوا ذلكَ فلسفة. وتبعَه كثرٌ، منهُم من أكملَ الكِرازة، ومنهم من أخذَ منه الجوهرَ، وصنعَ القالبَ الَّذي يليقُ به هو، فكان ما كان من فنونِ كتابةٍ، وبينها فنُّ المقالة. 

رسالةُ عبدِالحميد الكاتب إلى الكتَّابِ مثلٌ على المقالةِ الأدبيَّة، ومقالاتُ ابنِ المقفَّع في الصَّداقةِ والصَّديق مثالٌ للمقالةِ الاجتماعيَّة. أمَّا الجاحظُ فَكأنِّي به وضعَ شُرعةً للمقالةِ بدَعوته إلى البلاغةِ والإيجاز. وما البلاغةُ إلَّا إصابةُ المعنى، والقصدُ إلى الحُجَّة معَ الإيجاز.

وكم بدا القسِّيس إدغار طرابلسي، في ستِّينه هذا، بليغًا موجَزًا.

هذا في التُّراثِ العربيِّ... إلى أنْ كان الفرنسيُّ ميشال دي مونتين، الَّذي تُجمع مراجعُ التَّاريخ الأدبيِّ على أنَّه رائدُ المقالةِ الحديثةِ في الآداب الأوروبيَّة، في كتابه "محاولات" الصَّادر عام 1585، فسلَكَتِ المقالةُ معَه طريقَها نحو النُّضجِ والتَّكامل، واتَّخذت لها قالَبًا أضحى مُقَرَّرًا معروفًا، وغدتْ فنًّا من فنونِ الأدبِ المعرَّف بها، كالمِلحمةِ والقصيدةِ والنَّصِّ النَّثريِّ والمسرحيَّةِ والقصَّةِ والسِّيرةِ وما إلى ذلك.

إلَّا أنَّ ثمَّة من ينسب إلى العالِمِ والأديبِ البغداديِّ أبي الفرج بن الجوزي أنَّه سبق مونتين في كتابةِ المقالةِ بقرون، في كتابه "صيدُ الخاطر" الَّذي يتضمَّنُ قطعًا نثريَّةً قصيرةً تدور على شؤونِ الحياة والمجتمعِ والدِّينِ وهمومِ النَّفس.

ظننْتَ نفسَك، حضرةَ القسِّيس، تُقدِم، خَجِلًا، على جمعِ مقالاتك الَّتي نشرتَها تِباعًا، في مجلَّةِ "رسالة الكلمة" الصَّادرةِ عن كنيستِكَ، لِتقولَ في سرِّك، إنَّك ما دمتَ نشرتَها سابقًا وقُرِئَتْ، لِـمَ تعيدُ إصدارَها في كتاب؟

لا تخجلْ يا صديقي. فأجملُ ما خلَّفه لنا كِبارُنا، من أعمالٍ أدبيَّةٍ رائدةٍ نهضويَّةٍ مبدعة، كان مقالاتٍ في صحفٍ ومجلَّات، جُمعت في كتبٍ لاحقًا، فكانت، على سبيل المثال ليس إلَّا، كانت "العواصفُ" و"البدائعُ والطرائفُ" و"دمعةٌ وابتسامة" لجبران خليل جبران، وكانت "المفكِّرةُ الرِّيفيَّة" لأمين نخلة، وكان "غربال" ميخائيل نُعيمة الَّذي احتفل، السَّنةَ المنصرمة، بمئويَّةِ صدورِه، وكان "دربُ القمر" و"تمُّوزيَّات" لفؤاد سُليمان، وكانت "كلمات كلمات كلمات" لأنسي الحاج، وكان "مختصرٌ مفيدٌ" لرشدي المعلوف... واللَّائحة تطول.

هذه الإصداراتُ التي سُقتُها، في سرديَّةٍ سريعة، هي كثير من تراثِنا الأدبيِّ الجميل، وهي قنديلٌ في ذاكرتِنا لعتَمَةِ الأيَّام، وهي جذعُ سِنديانةٍ نتوكَّأ عليه، ونتفيَّأُها، لنُحِسَّ بأمان روحيٍّ ونفسيٍّ.

وقد جاء "ستُّون"، بتوقيعِ القَسِّيس إدغار طرابلسي، ليزيدَ إلى شجرةِ السِّنديان الوارفةِ الظِّلال تلك، غصنًا يحلو له، أن يطاولَ الغيمَ، أحيانًا.

هل أدَّت المقالةُ في ما سبقَ غايتَها؟ بالطَّبع لا. فالمقالة، إلى الإيجازِ والوضوحِ والسُّهولةِ والبلاغةِ والبساطة، هي بحثٌ مختصرٌ، في أيٍّ من شؤون الحياة وشجونِها. وكل بحث قد يتحوَّل دراسةً أو أطروحةَ، أو كتابًا. وكم من أفكارٍ بسيطةٍ وردَتْ في مقالةٍ، كرَّست كاتبَها فيلسوفًا، كمثل نيتشه الَّذي بخواطره الكثيرِة، كان أقربَ فيها إلى المقالةِ الكثيفة، منها إلى مجرد لُمَعٍ فكريَّة.

ولكن ما بالُك بالمقالة التي تشهدُ للحقِّ، وتنصُرُ المظلومَ في وجه ظُلْمٍ مقصودٍ مُبرمج، كما هي حال مقالة إميل زولا، "أنا أتَّهم"، الَّتي بِسببها بُرِّئ الضَّابطُ الفرنسيُّ دريفوس من تهمةِ التَّجسُّس لمصلحةِ الألمان، نهايةَ القرنِ التَّاسع عشر. مقالةٌ عُدَّت رمزًا للفصاحةِ الخَطابيَّة ولمدى قدرةِ الصَّحافةِ على الدِّفاع عن الإنسان والحقيقة.

فتحيَّةً لتلكَ الصَّحافة.

ووا صحافتاه، لما نقرأُه اليوم، ونأنَفُ أن نفلفشَ ورقَه.

ومذذاك ربما اقترنتِ المقالَةُ بالصَّحافة، اقترانًا كالزَّواج المارونيِّ. وباتت قِبلتَها... حيثُ تصلِّي العيون.

لا بل، ما بالُكَ بالمقالةِ التي وقعها بين النَّاس فعلُ تمرُّدٍ على ظلمٍ أو وصاية، ورفضٌ لأمرٍ واقعٍ، وثورةٌ حضاريَّة، أبقتْ شعلةَ النِّضالِ والأملِ متوهِّجةً، وساهمتْ في تحريرِ لبنانَ، كمثلِ مقالاتِ "النَّشرة اللُّبنانيَّة" الَّتي دأب الرَّئيسُ العماد ميشال عون على توجيهِها أسبوعيًّا إلى اللُّبنانيِّين، بين العامين 1990 و2005، وقد جُمعتْ، لاحقًا، في كتاب "وتبقى الحقيقة".   

وأكتفي بعدُ بأمثلةٍ ثلاثة:

مقالةٌ كتبتُها كانت سببًا رئيسًا في سَجني عام 2001، رفضتُ فيها أن أتبنَّى ما كان يقال وقتذاك، إنَّ الوجودَ السُّوريَّ في لبنانَ ممنوع من الصَّرف. بل قلتُ إنَّه لزومُ ما لا يلزم.

ومقالةٌ للرَّاحل ميشال أبو جودة، في 13 أيلول 1974، توقَّعَ فيها انهيارَ دول وقيامَ أخرى، واندلاعَ حروبٍ هي لحظةُ موت عالم قديم، لكنَّه موت بلا ميلاد، فضلًا عن تخيُّله هيئاتِ الدَّواعش ووجوهَهم ووحشيَّتَهم.

أمَّا ثالثُ الأمثلةِ فعنْ ذاكَ الكبير سعيد عقل الَّذي رفعَ مستوى الكلمةِ وصاحبِها. كان يكتبُ مقالةً من مئةِ كلمة، في جريدة "الجريدة" ومن ثَمَّ في "لسان الحال"، ويتقاضى عن كلِّ كلمةٍ ربعَ ليرة، فنصفَ ليرة، زمنَ لم تكنِ اللِّيرة في عُهدةِ رياض سلامة، من دونِ أن يكون أحدٌ قادرًا على حذف ولو كلمةً واحدة منها، بل قل حرفًا واحدًا.

ستُّونك، صديقي القسِّيس، هي هذه كلُّها، ناقصةً بعدُ اعترافي، قبل مغادرتي كرسيَّ الاعتراف، ونيلِ بركتِك، بأن أتناولَ، كلَّما التقينا إلى مائدةِ الكلمة، وأنَّى التقينا، أن أتناول من يدِك قربانةَ المعرفةِ والمحبَّة والصَّداقةِ، ما دُمنا معًا على قيدِ الكلمةِ... والحياة.