عكسَ تاريخ "السابع من أكتوبر" مسار الاقتصاد اللبناني بشكل عام، والتجاري بشكل خاص. صحيح أنّ الحالة الاقتصادية لم تكن وردية، قبل 7 تشرين الأول 2023، إنّما المؤسسات الخاصّة التي استطاعت الصمود خلال حقبة الانهيار شهدت تحسّناً ملحوظاً في الأداء. ولا سيما بعد دولرة الاقتصاد. فتناست أموالها المتبخّرة من المصارف، وتغاضت عن فقدان الخدمات العامة، وتأقلمت مع سعر صرف وهمي، وانطلقت تبحث عن فرص التطوير الجديدة.

أظهر "مؤشر جمعية تجار بيروت - فرنسَبنك لتجارة التجزئة" تراجعاً كبيراً في الفصل الرابع من العام الماضي. إذ تراجع من 88.08 نقطة في الفصل الثالث من العام 2023، إلى 56.09 نقطة في الفصل الرابع منه. وذلك باعتماد الرقم 100 كنقطة أساس مُقيّمة بنتائج الفصل الرابع لسنة 2019. وعليه، كلّما اقترب رقم المؤشر من 100 دلّ على تحسّن في الوضع التجاري، والعكس صحيح.

التراجع التجاري بالأرقام

يعود التراجع التجاري في الفصل الرابع من العام الماضي إلى تسارع الأحداث على الساحتين المحلية والاقليمية. فهذا الفصل الذي بدأ في تشرين الأول وانتهى بكانون الاول، تزامن مع عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول، وفتح "جبهة المشاغلة" جنوباً بعد يوم واحد. الأمر الذي أدّى إلى تكبيل الحركة الاستهلاكية بالضغوط الانكماشية"، بحسب ما يبيّن "المؤشّر". "ترافق ذلك مع وصول ارتفاع التضخم بنسبة 192.26 في المئة، مقارنة بالفصل الرابع من العام 2022. وبنسبة 20 في المئة مقارنة بالفصل الثالث من العام 2023. وذلك بعدما كانت قد تباطأت الى 9.27 في المئة في الفصل الثالث. وكان لتلك الزيادات في معدّلات التضخّم أثر إضافي على النتائج الفصلية، إذ بيّنت الأرقام المجمّعة من جميع قطاعات أسواق التجزئة انخفاضاً حقيقياً بلغ 40.29 في المئة، ما بين الفصل الثالث والفصل الرابع لسنة 2023 (مقارنةً نسبة + 8.59 % في الفصل السابق، أي خلال موسم الصيف)، وذلك بعد استثناء قطاع الوقود والمحروقات إذ تمّ تسجيل انخفاض بنسبة – 12.75 في المئة من حيث الكمّيات (وهذا الرقم يبدو طبيعياً نظراً لانخفاض الطلب بعد مغادرة المغتربين والسياح).

الأسواق تترجم الأرقام

الترجمة الحقيقية لهذه النسب والمعادلات على أرض الواقع بيّنتها الأسواق سريعاً. إذ "أدّى تراجع أعداد السياح وانخفاض الطلب على كلّ ما هو غير ضروري إلى تراجع الحركة التجارية بين 30 40 في المئة، في الفصل الرابع مقارنة بفترة الصيف"، بحسب الخبير الاقتصادي الدكتور باسم البواب. فتراجع الطلب على الكماليات من سيارات والكترونيات حتّى على الملابس والترفيه والمجوهرات. ترافق ذلك مع "تخييب" موسم الشتاء آمال المؤسسات السياحية الجبلية، وكلّ ما هو مرتبط بالتزلج والاحتفاء بالزائر الأبيض". واستمر هذا التراجع بنسب أكبر في الفصل الأول من العام الجاري الذي ينتهي آخر هذا الشهر. خصوصاً في ظلّ توسّع الأعمال العدائية وازدياد رقعتها الجغرافية.

المشكلة لا تقف عند حدود التراجع بالأرقام، على الرّغم من تأثيرها الكبير، إنّما تمتدّ، بحسب رئيس تجمّع رجال وسيّدات الأعمال اللبنانيين نيكولا بو خاطر، إلى أبعد من ذلك. فالتطوّرات الإقليمية المترافقة مع عدم تحقيق أي من الإصلاحات البنيوية "أدّت إلى مفاقمة الضغوط المعنوية والمادية على الاقتصاد اللبناني، وتركته في منطقة رمادية وحالة من عدم اليقين"، يقول بو خاطر. وقد انعكست التطوّرات على النحو التالي:

ارتفاع تكلفة الشحن من لبنان وإليه بين 3 و4 أضعاف بسبب ارتفاع تكلفة التأمين على البواخر التي تعبر البحر الأحمر أو ارتفاع تكلفة الشحن لتلك التي تضطر إلى سلوك مسار أطول والدوران حول إفريقيا عبر رأس الرجاء الصالح. وهو الأمر الذي يرتد ارتفاعاً في الأسعار في الأسواق الداخلية.

تقليص القطاع الأسري إنفاقه بشكل كبير نتيجة حالة عدم اليقين والخشية من تطوّر الصراع.

فرملة الاستثمارات في القطاع الخاص نتيجة عدم وضوح الرؤية من جهة، وفقدان مصادر التمويل من جهة أخرى.

الخوف على المستقبل، وتراجع نسب السياحة بشكل كبير. خصوصاً أنّ الأخيرة تمثّل محرّكاً أساسياً للنشاطيْن الاقتصادي والتجاري.

الزيادة على الأجور قريبة

على الرّغم من هذه المشهدية السوداوية "تلقّى أعضاء لجنة المؤشر دعوة من وزير العمل مصطفى بيرم للمشاركة في اجتماع "اللجنة" نهار الثلاثاء في 19 آذار. وبحسب ما رشح من معلومات سيتمّ التوافق على رفع الحدّ الأدنى للأجور من 9 ملايين ليرة إلى 18 مليوناً مع زيادة المنحة التعليمية من 3 ملايين ليرة راهناً إلى ما بين 10 و12 مليوناً. هذه الزيادة التي كان من المفترض أن تقرّ قبل نحو شهر، أخّرها رفض الهيئات الاقتصادية رفع الحدّ الأدنى للأجور إلى 20 مليون ليرة كما اقترح وزير العمل. ليس لأن الرقم كبير، إنّما لكونه يتماهى مع "سابقة" الضمان الاجتماعي بإحالة المؤسسات التي تعطي رواتب تقلّ عن 20 مليون ليرة إلى التفتيش. ذلك مع العلم أنّ الحدّ الأدنى الرسمي هو 9 ملايين ليرة"، تلفت مصادر من لجنة المؤشّر. و"كيلا لا تُكرّس معادلة الضمان كقاعدة تتحدّد على أساسها الأجور، تبادلت الهيئات الاقتصادية الأدوار برفض رقم 20 مليوناً". ولحفظ ماء وجه الضمان، صعّد الاتحاد العمّالي العام مطالبه، "طارحاً رقم 52 مليون حدّاً أدنى مع علمه المسبق باستحالة اتفاق أرباب العمل عليه"، يقول مصدر من جمعية الصناعيين. "خصوصاً في ظلّ تراجع المبيعات بنسبة 40 في المئة وقبل مكافحة الاقتصاد غير الشرعي الذي أصبح يمثّل أكثر من 50 في المئة من الاقتصاد، ويشكّل منافسة غير شرعية للمؤسسات، وقبل إيجاد حلّ لمشكلة التعويضات من الضمان الاجتماعي قبل العام 2024".

إزاء انسداد الأفق دعا رئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي، إلى اجتماع جمع، إلى وزير العمل، رئيس الاتحاد العمالي العام بشاره الأسمر ورئيس الهيئات الاقتصادية الوزير السابق محمد شقير. وأعلن بيرم عقب اللقاء أنّه "تمّ التوافق على المبادئ والنقاط الرئيسية التي سنعلنها ونناقشها في لجنة المؤشّر يوم الثلاثاء المقبل. وستحصل خلال شهر رمضان زيادة للقطاع الخاص، وسلّة الزيادات ستكون جيدة".

الضمان وأرباب العمل

المشكلة من وجهة نظر أرباب العمل وأصحاب المؤسسات لا تتمثّل بالحدّ الأدنى للأجور بقدر ما ترتبط بـ "انحسار تقديمات الضمان الاجتماعي، وفقدان الثقة بهذه المؤسسة"، برأي بو خاطر. "فالزيادة التي ستعطى وتسجّل في الضمان لن يقابلها ارتفاع بالتقديمات. وسيتحمّل العمّال جميع التكاليف الاستشفائية والفاتورة الدوائية نتيجة انحسار التقديمات، في حين تآكلت تعويضات نهاية الخدمة بسبب سوء إدارة هذا الفرع وعدم استثمار مليارات الدولارات التي كانت تتضمّنها بالطريقة الصحيحة. وجرى تحويل جزء من تعويضات نهاية الخدمة إلى فرعي المرض والأمومة، بعكس أيّ مفهوم صحّي. وتبخّر الجزء الآخر الذي كان موظّفاً في المصارف.

زيادة الرواتب لزيادة التعويضات وليس العكس

من جهتها تلفت مصادر من الضمان الاجتماعي إلى أنّ "لا مجال لزيادة التقديمات من دون زيادة قيمة الرواتب المصرّح عنها". فالمؤسسات تعطي عمّالها مبالغ أكبر بكثير من تلك التي تصرّح عنها. ومشكلتها الأساسية تنحصر بتعويض نهاية الخدمة.لأنّ التصريح بالرقم الحقيقي للأجور سيرتّب عليها تسويات بمبالغ كبيرة جداً. ذلك أنّ تعويض نهاية الخدمة هو عبارة عن ضرب آخر راتب مصرّح عنه بنسبة معينة من عدد سنوات الخدمة". مضيفاً أنّه "جرى إسقاط المادّة التي تنصّ على مضاعفة التعويضات 10 مرات في موازنة 2024 انسجاماً مع حماية القطاع الخاص وعدم تحميله المزيد من التكاليف". ولفت المصدر إلى أنّ "التعويضات الاستشفائية والدوائية رُفعت أخيراً بشكل كبير. فعاد الضمان لمحاسبة المستشفيات على أساس التكلفة المقطوعة التي كانت تعتمدها وزارة الصحة قبل الأزمة مضروبةً بـ 20 ضعفاً، تكفي لتغطية 50 في المئة من العمل الاستشفائي، في حين أصبحت التغطية الدوائية تشمل 660 دواء، بنسبة 75 في المئة من مساهمة الضمان بالسعر الذي تضعه وزارة الصحة. أي أنّ التغطية سترتفع إلى 60 في المئة من السعر الحقيقي".

في العادة، تحفّز زيادة الرواتب على الاستهلاك، وبالتالي على تفعيل الاستثمارات وزيادة معدّلات النمو. هذا في الاقتصاديات الطبيعية. أمّا في لبنان فإنّ أيّة زيادة للرواتب والأجور ستنعكس طلباً على الدولار، ومفاقمة الضغوط على سعر الصرف. ولن تستوي الرواتب والأجور قبل تحقيق الإصلاحات الحقيقية التي لا تزال السلطة تماطل بها منذ بدء الانهيار.