ملَّ المودعون تمييع حقوقهم، ولم تملّ الميوعة مرجحتهم من "جرفِ" الاقتطاع الجائر من حساباتهم إلى "حافة" التمنين بتقسيطها إلى أبد الآبدين. الجامع المشترك بين جميع السياسات "الترقيعية" التي انتهجتها السلطة منذ بدء الانهيار هو وقوع المودعين في الحالتين في براثن الفقر والجوع. وبرغم هذا يأمّلون خيراً، ولا يملّون الوعود. وآخرها "تقطير" ودائعهم بـ "كركة" التعميمين 682 و166.

إزاء انسداد آفاق الحلّ الشامل والكامل لـ "توزيع الخسائر"، وتحديد مصير الودائع، وجد مصرف لبنان نفسه مرة جديدة أمام مسؤولية "إنصاف المودعين ضمن صلاحياته وبحدود الإمكانات المتاحة"، حسبما قال الحاكم بالإنابة وسيم منصوري في بيان تعليلي لتعديل التعميم 158. فأصدر في 17 تشرين الثاني 2023 تعميماً حمل الرقم 682، يسمح بموجبه للشريحة التي نقلت حساباتها من مصرف إلى آخر بعد 31 تشرين الأول 2019، من الاستفادة من التعميم 158 وتقاضي 300 دولار نقداً شهرياً. وذكّر المركزي آنذاك بـ "وجوب إيجاد حلّ نهائي يؤمّن للمودعين حقوقهم عبر تفاهم الجميع لإقرار خطّة شاملة بغية حلّ هذه الأزمة الوطنية". وتبعاً للمنطق نفسه، أصدر مصرف لبنان التعميم 166 في 2 شباط 2024، وسمح بموجبه لأصحاب الحسابات بالدولار المكوّنة بعد 31 تشرين الأول 2019 بسحب 150 دولاراً نقداً شهرياً. وذلك كبديل عن سحب مبلغ 1600 دولار على سعر صرف 15 ألف ليرة، الذي كان يتيحه التعميم 151 المنتهية صلاحياته مطلع هذا العام.

التعقيد في التعميم 682

التعميمان لم يوضعا موضع التنفيذ بعد. وقد لا تبدأ المصارف بتطبيقهما في الأمد القريب. وإن فعلت، فستشوبهما الاستنسابية نظراً لغياب الوضوح في الآليات التنفيذية، ومحاولة المصارف تخفيض التكلفة - غير المقدّرة بعد على وجه الدقّة - إلى الحدّ الأدنى. فـ"التعميم 682 شائك التطبيق، ومعقّد"، يقول الخبير المصرفي غسان أبو عضل. فهو يفرض إعادة الحساب من "المصرف المحوّل إليه" إلى "المصرف المحوّل منه" ويفرض على الأخير تسديد المبالغ التي تصل بحدّها الأقصى إلى 50 ألف دولار. بشرط أن لا يكون المودع على خلاف قانوني مع "المصرف المحوّل منه"، أو استفاد من التعميم 151 خلال الفترة الماضية. ويطلب التعميم من "المصرف المحوّل إليه" احتساب المبلغ المحوّل الذي يمكن العميل الاستفادة منه عن طريق اعتماد رصيد الحساب كما هو موقوف بتاريخ 31 تشرين الاول 2023، وأن لا يتعدّى الرصيد المتوفّر بتاريخ فتح الحساب. وسيفتح المجال أمام المصرف المحوّل منه، والذي تقع على عاتقه مسؤولية التطبيق، للتحجج بإمكانية عدم ضبط المصرف المحوّل إليه حركة الحساب. وعليه، كان الأجدى، بحسب أبو عضل "ترك مسؤولية التعويض عن الموضوع على عاتق المصرف النهائي المحوّل إليه، وجمع مصرف لبنان السيولة من المصرف القديم ونقلها إلى الجديد. أو تأمين جزء من السيولة". علماً أنّ التعميم لن يطبّق على أكثر من 1000 حساب، وذلك من أصل 15 ألف حساب نُقلت من مصرف إلى آخر خلال الفترة الماضية.

تجارة الشيكات تعرقل تطبيق التعميم 166

"في الوقت الذي لم يبدأ فيه تطبيق التعميم 166 يتمّ السّحب من حسابات الدولار المكوّنة بشكل أساسي بعد 31 تشرين الأول 2019 على أساس سعر صرف 15 ألف ليرة للدولار الواحد، وبسقوف يحدّدها كلّ مصرف على حدّة. وذلك بحسب كمّيات الليرات المتوفرة لديه"، يقول نسيب غبريل كبير الاقتصاديين في بنك بيبلوس. "إذ تواجه المصارف معضلة نقص السيولة بالليرة بسبب سياسة مصرف لبنان الهادفة إلى تجفيف العملة الوطنية، للحدّ من انهيار سعر الصرف والتضخم". وهذه المعضلة كانت قابلة للحلّ لولا تضمين التعميم في شروط الحسابات المستثناة، بنداً مبهماً ينصً على عدم إمكانية استفادة الأشخاص الذين تظهر حساباتهم حركة شيكات مصرفية تدلّ على عملية تجارة شيكات بعد تاريخ 31 تشرين الاول 2019، من التعميم. فمن الممكن أن يكون العميل قد وضع في حسابه عدداً من الشيكات من خارج إطار التجارة، ناتجة من إلغاء التأمين وتسكير حسابات في غير مصارف... الخ. ومن الممكن أن يكون عميل آخر قد اشترى شيكاً واحداً من السوق ووضعه بغرض التجارة. فمن يحدّد طبيعة الشيكات ويميّز هذه من تلك؟ فـ"التعميم لا يتضمّن إيضاحات تحدّد أولاً مفهوم تجارة الشيكات، وثانياً العدد، والمبالغ المتداولة"، بحسب غبريل. و"هذا ما أخّر تطبيق التعميم". وعلى الرغم من التشكيك بإمكان البدء قريباً بتطبيق التعميم 166، يظهر أنّ المركزي أوضح للمصارف قصده من "تجارة الشيكات". "من دون أن يتضّح التعريف الذي اعتمده أو أوصى باعتماده ويتوافق مع معاييره"، يضيف غبريل. "وقد بدأت المصارف استقبال طلبات المودعين الراغبين في الاستفادة من التعميم. وسيتمّ الدفع لهم بعد الموافقة على الطلب مع الشروط بمفعول رجعي منذ تاريخ تقديمه".

الهيركات 83٪

من الآن إلى حين البدء بتطبيق التعميم سيتحتّم على المودعين خسارة 83 سنتاً من كلّ دولار يسحبونه من حساباتهم، وهذه النسبة تسمى Headcut وليس Haircut، وتمثل من وجهة نظر المحامية في رابطة المودعين دينا أبو الزور "إجحافاً كبيراً بحقّ أصحاب الودائع الذين ينتظرون بكثير من اليأس البدء بتطبيق التعميم 166 للتخفيف من خسائرهم ولو قليلاً".

عقدة سعر الصرف الجديد

التسليم جدلاً بإمكان تطبيق التعميم 166 بشكل منصف وعادل لن يكون نهاية المشكلات. فهذا الرقم لا يكفي لتمويل الفاتورة الاستهلاكية للمودعين. خصوصاً للفئة المدخّرة التي أصبحت خارج سوق العمل بسبب التقاعد أو البطالة. وسيضطر المودعون تالياً إلى سحب مبالغ من ودائعهم بالليرة بحسب السعر المنتظر، الذي يجري التحضير له بين وزارة المال ومصرف لبنان. وفي هذه المسألة تحديداً تبرز العقدة الثانية، التي تتمثل في إيجاد المعادلة السليمة التي توازن بين حجم السحوبات بالليرة من جهة والتضخم من جهة ثانية. فهذان المتغيّران مرتبطان بعلاقة عكسية، أي زيادة بالليرات ستؤدّي إلى ضغط على سعر صرف الليرة وتراجعه مقابل الدولار، ومن ثمّ عودة التضخّم إلى الارتفاع. ومن المتوقّع أن يكون سقف السحب المتاح بالليرة متدنياً جداً. إذ أظهرت التجارب منذ بدء الانهيار ارتفاع سعر صرف الدولار مع كلّ تغيير بقيمة السحوبات من حسابات الدولار. وهذا ما حدث عقب رفع السعر إلى 3900 ليرة، مروراً بالرقم 8000 ليرة ووصولاً إلى الرقم الأخير 15000 ليرة.

في جميع الحالات، كانت التعاميم، ولا تزال، تشتري الوقت للطبقة السياسية. وإذا وضعنا سوء النية جانباً، ووافقنا على أنّها توضع لإنصاف المودعين بالحدّ الأدنى، فإنّ سلبياتها تبقى أكبر من إيجابياتها. "يكفي أنّها تطمئن السياسيين إلى تخدّر المودعين، للاستمرار في لامبالاتهم في البلاد والعباد، وتقديم مصالحهم الضيقة على المصلحة العامة"، بحسب الكثير من الآراء.