المصادفة قد تجعل تواريخ معيّنة حاضنة لذكرى هي أكثر من محطّة مفصلية في مسار الشعوب. هذا هو حال "14 آذار" واللبنانيين بين الأعوام 1978 و1989 و2005. كما أنّ الشعور بالظلم والقهر والقمع أو بسطوة محتلّ أو عنجهية سلاح غير شرعي، قد يدفع بهذه الشعوب للتعلّق بـ"حبال الهواء" أو السير خلف "دون كيشوتيين" يصارعون "طواحين الهواء" أو الرهان على الأسوأ للتخلص من أسوأ آخر. 

في 14 آذار 1978، اجتاح الجيش الإسرائيلي المناطق الواقعة جنوب الليطاني في ما عرف بـ"عملية الليطاني"، عقب هجوم نفّذه فلسطينيون على طريق حيفا - تل أبيب بذريعة قدومهم من الأراضي اللبنانية، للقضاء على "فتح لاند" ووضع حدّ لعمليات الفصائل الفلسطينية انطلاقاً من جنوب لبنان. يومذاك، استقبل جنوبيون الإسرائيليين بنثر الأرُز والزغاريد، آملين أن يضعوا حدّاً لمعاناتهم التي تتسبّبت بها ممارسات "الفدائيين". ترفّعوا عن عدائهم لإسرائيل علّها ترفع عنهم ظلم "ذوي القربى" من بعض أبناء فلسطين. 

في 14 آذار 1989، استفاق اللبنانيون على رئيس الحكومة الانتقالية الجنرال ميشال عون يعلن "حرب التحرير" على الاحتلال السوري، واعداً إياهم بـ "هزّ المسمار" وبـ "تكسير رأس حافظ الاسد". مع العلم أنّ عون كشف لاحقاً أن هذه الحرب كانت "تنفيسة" لحرب الإلغاء الأولى ضد "القوات اللبنانية"، أي 14 شباط 1989 التي فشل في حسمها خلال ساعات كما وعد معاونيه. وقد أتت مقابلة الصهر السابق لعون وأحد ضباطه المفضّلين على مدى سنوات، النائب السابق شامل روكز في 6-1-2024 مع صحيفة "نداء الوطن" لتؤكد ذلك، إذ قال"في 14 آذار انطلقت حرب التحرير. وهنا، كي أكون أميناً لما حصل، كان مقرّراً أن ننزل إلى مراكز القوات في المجلس الحربي والضبيه والسيطرة عليها، لكن تحولت المعركة في آخر لحظة ودخلنا في سنة كارثية". 

في المحطّات الثلاث، اندفع اللبنانيون غير آبهين بالمخاطر أو بالفواتير التي قد يسدّدونها، وغير سائلين هل النتيجة مضمونة أم لا

غضّ اللبنانيون النظر عن كيفية وصول عون الى اليرزة عام 1984. كان ذلك من ثمار انفتاح الرئيس أمين الجميل على سوريا، إذ رُقّي عون من رتبة عقيد الى رتبة عماد متخطياً رتبة العميد بهدف إنهاء حقبة قائد الجيش إبراهيم طنّوس. كما لم يتوقّفوا عند تخطيّه المهمّات الموكلة إليه بصفة كونه رئيس حكومة انتقالية مكلّفاً حصراً وفق الدستور، تأمين انتخاب رئيس للجمهورية. كذلك لم يسألوه عن المقوّمات التي استند اليها لشنّ الحرب بشكل فجائي ولا عن الحسابات العسكرية التي ارتكز عليها، وتبيّن لاحقاً أنّها مخطئة، وأدّت الى الهزيمة، بل دفعهم عداؤهم المزمن لسوريا إلى السير خلفه و"على بياض". 

في 14 آذار 2005، صحيح أن الاحتقان كان في أوجه بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وأنّ الاستنفار على أشدّه بعد صدور القرار 1559، وأنّ البلاد شهدت انقساماً عمودياً، إلّا أنّ تظاهرة "شكراً سوريا" التي نظّمها "حزب الله" وحلفاؤه في 8 آذار استفزّت اللبنانيين السياديين. فكان الرّد عبر تظاهرة "14 آذار" غير المسبوقة من حيث حجم المشاركة الشعبية. لم يتوقف جمهور "14 آذار" عند التباينات في صفوف سياسييه بين من يدعو إلى الانسحاب السوري الفوري ومن ظلّ متمسّكاً بالدعوة إلى الانسحاب مرحلياً إلى البقاع كما نص اتفاق "الطائف"، ولكن خلال عامين بعد توقيعه عام 1989. لم يتوقّفوا عند مشاركة وجوه تنعّمت بزمن النظام الأمني اللبناني – السوري، أو تلطّت في انتظار مرور العاصفة. كان كلّ همّهم اغتنام الفرصة والاستفادة من المناخات الدولية لطيّ صفحة سورية دامت 30 عاماً. 

في المحطّات الثلاث، اندفع اللبنانيون غير آبهين بالمخاطر أو بالفواتير التي قد يسدّدونها، وغير سائلين هل النتيجة مضمونة أم لا. فالظلم يولّد القهر الذي يستجلب الغضب، ولا أحد يعلم كيف من الممكن أن يترجم. إذ قد يدفع إلى رهانات جنونية لا تحمد عقباها. إلّا أنّ المسؤول الأول والأخير يبقى الظالم المتجبّر لا المظلوم المقهور الذي يدفعه يأسه إلى خيارات ومغامرات غير مضمونة النتائج. 

اليوم، في 14 آذار 2024، ثمّة شرائح لبنانية كثيرة تشعر بالظلم والغبن المستدامين منذ الانقلاب على "الطائف" وتكريس معادلة الغالب والمغلوب. يتملّكها اليأس من عقم هذا النظام الذي لم ينتج إلّا صراعات متواصلة وحروباً متقطّعة. طفح كيلها من أداء "حزب الله" وفريقه، ومن تفرّده بقرار الحرب والسلم، ومن كسره حصرية السلاح بيد القوى الشرعية، ومن عبثه بالسياسات الخارجية والعلاقات مع الدول وفرضه أجندته على لبنان وشعبه. من هنا، يجب على "الحزب" أن يتدارك دفع اللبنانيين إلى خيارات جذرية، كخيار ما بعد بعد الفديرالية، وإلّا فستقع المسؤولية عليه بشكل أساسيّ.