ختم مهرجان الكتاب اللبناني الذي أقيم بين 29 شباط الماضي، و10 آذار الجاري، في القاعة الكبرى لدير مار الياس أنطلياس، فاعليات دورته الحادية والأربعين، بتكريم الحركة الثقافية – أنطلياس، الموسيقي شربل روحانا، مساء الأحد الماضي.

لقب الموسيقي هو ما يفضِّله ابن عمشيت، مع أنه مؤلف موسيقي، وملحِّن، وعازف عود وأستاذ فيه، وكاتب، ومغنٍّ. وليس أيَّ موسيقي هو، إنما ذاك الذي يشبه طفلًا "يهوشل" في حقل ربيعي، أو على شاطئ بحر، كلَّما ذهب إلى الحقل عاد بزهرة غريبة، أو كلَّما يمم شاطئًا، عثر على محارة.

شربل روحانا، وإن قارب الستين، ما زال طفلًا، تنبع الموسيقى عنده، على ما قال في كلمته، خلال التكريم، من "رغبات متعددة مبعثرة فوضوية قادته إلى قصر عال فسيح، حيث الغرف الكثيرة متداخلة مثل مقامات موسيقية تنقلت من مقام إلى آخر وكل مقام غاية في الجمال والروعة".

حين كرمه نادي "لا جوكوند"، قبل أكثر من 20 عامًا، في القصر البلدي في زوق مكايل، تحدثت في المناسبة، وأشرت إلى ميزة شربل روحانا، مذذاك. قلت وأكرر أنَّه من قلة من الموسيقيين ما زالوا يأتون بجملة موسيقية جديدة. وهذا ما أشار إليه، ضمنًا، صاحب "مزاج علني" حين تحدث عن التداخل السلس للمقامات الذي ولد عنده ألحانًا "بعضها وصل إلى قلوبكم وبعضها الآخر قد يصل يومًا أو لن يصل ربما، ما همَّ ما دمنا في الموسيقى كما في الحبّ لو مهما أردنا الوصول ليس أمامنا سوى محطات وسنبقى باحثين عن أفكار ومشاعر لا تنضب".

ميزة شربل روحانا الأخرى، غير الابتكار، هي التجريب. لا ينفك يجرِّب، متوكئًا على ثقافة ودراسة موسيقيتين، وعلى ذوق مرهف، وعلى اطلاع وتفاعل مع أنواع موسيقية كثيرة. وهذا ما دأب عليه منذ أصدر عمله "سلامات" الذي عدَّه حوارًا بين قديم وجديد، في وقت هو حوار بين أصالة وتطوير يتكاملان في 21 مقطوعة قصيرة، وحوار بين الموهبة والعلم. أصالة في التأليف القائم على إشباع المقطوعة بالمقامات الشرقية، وتطوير في تقديم أنغام بمقدار ما هي أصيلة، هي بنت العصر، بقصرها وسرعة حفظها واختصارها هويات موسيقية شتى في هوية واحدة، يمكن إطلاق تسمية "هوية شربل روحانا" عليها.

ميزة شربل روحانا الأخرى، غير الابتكار، هي التجريب. لا ينفك يجرِّب، متوكئًا على ثقافة ودراسة موسيقيتين، وعلى ذوق مرهف، وعلى اطلاع وتفاعل مع أنواع موسيقية كثيرة.

بدا شربل روحانا في تكريمه متواضعًا كعادته في الحياة، وعلى المسرح. وأكمل تجلِّياته التجريبية في أغنيتين ختم بهما التكريم. أغنية "ع الروزانا" التراثية وقد أضفى عليها أبعادًا موسيقية جديدة، ومعانيَ سأل فيها ما الذي فعلته تلك "الروزانا"، الباخرة التي خرقت حصار جبل لبنان، خلال الحرب العالمية الأولى، وزودت الناس أغذية. وأضاف إلى كلماتها المألوفة بيتين "كشفت على صدرها وقالت تعا تفرج، مخزن أساري انفتح، وخباري غرامية"... أما الأغنية الثانية "دُم إِسْ تك، دقّ وغني، بُم بم بم طقّ البلد، يبدو إنو احترق فيوز وغيارو برا البلد" في انتقاد لواقع سياسي أليم نحياه. وهذا الأسلوب الانتقادي، ليس بغريب عن شربل روحانا الذي طالعنا منذ سنوات، بأغنية "هاي، كيفك، سافا" مختصرًا فيها ادعاء البعض معرفة اللغات، وهو ادعاء فارغ قائم على ثلاث كلمات ليس إلَّا.


والطفل الكبير شربل روحانا، إلى كل صفاته، عاشق فرح، ومعمِّمه. وقد عبَّر عن ذلك، في كلمته، "فأنا لم أفعل شيئًا سوى أنَّني شعرت بالفرح الداخلي سواء بالتعليم أو بكتابة المناهج أو العزف والغناء والتلحين والتأليف... فتشت عن الحب والجمال في كل ما أفعل". ولعل ذروة ما أفصح عنه، قوله "ما الفرح سوى التمني بأن أعيش موسيقيًّا حقيقيًّا حتى النهاية".

مثقف شربل روحانا، وأستاذ، لكنه ما تخلى عن عفويته. صحيح أنه واعٍ كلَّ نوتة موسيقية يخطها ويعزفها ويوزعها، وكادت الحياة تنجح في انتزاع عفويته منه، لكنه أدرك أخيرًا "أن الأفكار الخلاقة لا تأتي عندما يكون المرء منتبهًا فحسب، بل حين يكون انتباهه عفويًّا جريئًا وبعيدًا عن التصنع وهنا تكمن الصعوبة". كأني به يترجم ما نقل عن عاصي الرحباني ودوَّنه زياد رحباني على كتيِّب أسطوانة "إلى عاصي"، وصية لكل من يريد أن يكون مبدعًا، ومفاده "ظلَّ عفويًّا، مثلما خطرت على بالك الجملة الأولى، وابتعد عن التكلُّف، واعمل على أن تأتي بقية الجمل عفوية".

طوال مشوار صاحب "مزاج علني" الطويل، لم يكتفِ شربل روحانا بأن يكون مغامرًا موسيقيًّا، تأليفًا وعزفًا على العود، وصاحب تجربة خاصة، زمنَ عزَّت التجارب الواعدة وقلَّت. بل هو يوغل، عن وعي، في التجربة، ليس في آفاق جديدة فحسب، بل وضمن مغامرته هو. كأنه في حال تقويم دائم لما ألَّف ونفَّذ. حسبنا بالعمل الذي يُنجزه ويبثُّه، يصبح ملكًا للذائقة الشعبية، ولاحقًا للذاكرة، فيرفض أن يأسره زمن ويحدِّده تاريخ، ليبدو أنه لم يُكتب بعد، أو أنه سهل مترامٍ لا تنضب غلاله، أو أنه غدٌ لا ينتظره غدٌ... إلا ليفرحَ بملاقاة غد.

وأظهر شربل، في ذاك التكريم، وفاء قل نظيره، لوالديه، وقد نقل عن والده يوسف أمثولة عمل بها في فنِّه، مما يفسر إتقانه ودقته لاحقًا. كلَّفه الوالد تنظيف حديقة المنزل من اليباس، ومن ثم حرثها. شربل الفتى المراهق، نفَّذ ولكن "من قفا إيدو" الأمر الذي لم يرق للوالد الذي قال له معاتبًا "بعمرك ما تستقرب ولا تستلشق ولا تعمل الشغلة من قفا إيدك"... وهذا سر تفوق شربل الذي عمل بوصية الوالد.

وكان وفيًّا لـ"جيش" إخوته وأخواته العشر، وقد خص كلًّا منهم بلفتة، من دون أن ينسى ولديه هيفا ونديم عازف الأكورديون البارع. كأنِّي بنديم يُحيي ما أراد شربل في مراهقته أن يكونه، عازفَ أكورديون ابتاعه له شقيقه الذي كان يدرس الطب في روسيا. فلمَ انتقل إلى العود؟

انتقل إليه في سن متقدمة، وأنجز في أربع سنوات كل علومه، والفضل في ذلك لابن خالته مارسيل خليفة (وشقيقه أنطوان عازف الكمان). مارسيل الذي حيَّا قريبه، خلال التكريم، بـ"الطوبى" لـ"الولد البرّي" الذي سيَّج الحيرة بزهرة القندول. وحيَّته أيضًا الأخت مارانا سعد، رئيسة جوقة القديسة رفقا والمشرفة على معهد "فيلوكاليا"، حيث يعلِّم شربل العزف على العود ويخوض مشروع ترقية الآلة وتطويرها. وإلى شقيقه ألبير والشاعر حاتم الذيب اللذين نوها بالمحتفى به علمًا من أعلام الموسيقى، لم تشأ "حفيدة" ميخائيل نعيمة سهى حداد نعيمة، إلَّا أن تصل حاضرنا بماضٍ غني. فروت كيف اتصل بها شربل يستأذنها تلحين قصيدة "الطُّمأنينة" (سقف بيتي  حديد ركن بيتي حجر)، ومقطع من محاضرة "الخيال"، فنال موافقة صاحب الحقوق، ابن أخي نعيمة، الدكتور نديم... وصدرت المقطوعتان في أسطوانة مدمجة.

شربل روحانا الذي قلده الأمين العام للحركة الثقافية في أنطلياس جورج أبي صالح درعًا ونسخة من "عامية أنطلياس"، طوى ليلتذاك، تلك الصفحة المشرقة في حياته الفنية، ولسان حاله يقول، بعنوان إحدى مقطوعاته الجميلة "... وهيك طلعت".