لا تمرّ موازنة عامّة في لبنان بسلاسة وهدوء. فلا تكاد نيران موادها تخمد تحت رماد التصويت عليها بالإيجاب، حتّى يسارع النواب إلى "الحدت"، لقطف الحدث والطعن بها جملة أو تفصيلاً أمام المجلس الدستوري. وهذا ما أصاب موازنة 2024 ذات "الجسم اللبيس"، التي تلقّت خمسة طعون، وبدأ الدستوري بتّها تباعاً.

صباح الإثنين الواقع فيه 4 آذار عقد المجلس الدستوري جلسة، في مقره في الحدت، في حضور جميع أعضائه، وقرّر وقف مفعول المواد 10-39-40-56-69-83-86-87-91 من قانون الموازنة العامّة 2024 المطعون فيه، والصادر بتاريخ 12-2-2024، والمنشور في الجريدة الرسمية ملحق العدد -7- تاريخ 15-2-2024، وذلك إلى حين بتّ المراجعة.

تفصيل المواد المطعون بها

تتعلّق المادّة 10 من قانون الموازنة بحظر إعطاء سلفات خزينة خلافاً لأحكام المواد 203 إلى 212 من قانون المحاسبة العمومية.

تتعلّق المادّة 39 من قانون الموازنة بتعديل المادّة 3 من قانون رقم 273 / 2001 (قانون طابع المختار) الذي أصبح بقيمة 50 ألف ليرة.

تنصّ المادّة 40 على إلزامية وضع "طابع المختار" على المعاملات.

المادّة 56 تتعلّق بإمكان تأجير أملاك الدولة الخصوصية من خلال مزايدة عمومية تُنظّم وفقاً لقانون الشراء العام واستناداً إلى دفتر شروط خاصّة يضعه وزير المال والوزير المختص.

تنص المادّة 69 على إعفاء السيارات الكهربائية من الرسوم خلال خمس سنوات، و 70 بالمئة من رسم التسجيل، ورسم الميكانيك للمرّة الأولى فقط. والسيارات الهجينة Hybrid تعفى بنسبة 80 بالمئة من الجمارك و 70 بالمئة من رسوم التسجيل.

تفرض المادّة 83 رسوماً على الشاحنات الأجنبية العادية والمبرّدة المعدّة للشحن الدولي للبضائع.

تخفض المادّة 86 معدّل الضريبة على أرباح التفرّغ عن العقارات بصورة استثنائية إلى 1 بالمئة ولمدّة تنتهي في 31 -12-2026.

تتعلّق المادّة 87 بإجراء تسوية على التكاليف غير المسدّدة المتعلّقة بضريبة الدخل وبالضريبة على القيمة المضافة المقدّمة أمام لجنة الاعتراضات.

تتعلّق المادّة 91 برسوم الجامعة اللبنانية حيث يناط بمجلس الجامعة تعيين الرسوم السنوية على أن يخضع لمصادقة وزير التربية.

"فرسان الموازنة"

المشترك بين المواد العشر التي أوقف المجلس الدستوري العمل بها، هو وقوعها تحت خانة "فرسان الموازنة"، بحسب المحامية الدكتورة جوديت التيني. أي أنّها مواد لا علاقة لها بالتوازن الاقتصاديّ والماليّ لحسابات الدولة في قانون الموازنة العامة. ودائماً يتطلّب إقرارها قوانين منفصلة، وليس تمريرها من ضمن الموازنة بسلّة واحدة. كما أنّ "المجلس الدستوري لا يراقب القانون من منظار توافقه مع مواد الدستور ومبادئه فقط، إنّما أيضاً توافقه مع أصول التشريع"، تقول التيني. ونظراً لكون هذه المواد تخالف أصول التشريع فقد قرّر الدستوري إيقاف العمل بها".

إشكالية سلف الخزينة

من أكثر المواد التي أُوقف العمل بها لفتاً للانتباه هي المادّة 10 التي أتاحت للحكومة إعطاء الإدارات السلف إذا كانت متوافقة مع أحكام مواد قانون المحاسبة العمومية. وباختصار فإنّ وجود هذه المادّة في موازنة 2024 كان "لزوم ما لا يلزم"، بحسب مدير المحاسبة السابق في وزارة المال د. أمين صالح. "فقانون المحاسبة العمومية في المواد من 203 إلى 212 حدّد بوضوح شروط إعطاء سلفات الخزينة. وهي باختصار أن تراعي السلفات الغاية لتموين مستودعات وشراء مواد قابلة للخزن، وتغذية صناديق المؤسسات العامة، وأن يتثبّت وزير المال من إمكان الجهة المستفيدة من إعادة السلفة نقداً، في المهلة المحددة، وأن يَحسم محتسب المالية مباشرة من راتب القيم على السلفة وتعويضاته المبالغ التي لا يثبت استعمالها، أو التي لا يسدّدها في المواعيد المحدّدة. وفي حال تأخّر إحدى الإدارات المُستلفة عن تسديد سلفة الخزينة، يحقّ لمحتسب المالية المركزي أن يقتطعها رأساً ممّا يكون لهذه الإدارة من أموال في الخزينة. وبالتالي إذا لم تتوافر هذه الشروط يقتضي ألّا تصدر سلفة خزينة لأيّ مؤسسة في الدولة، وخاصة للإدارات العامة. إذ بيّنت التجربة أنّ السلف كانت تعطى خلافاً للقانون، فلا يتثبت وزير المال من إمكانات الجهة المُستلفة وقدرتها على الإيفاء، وعليه كانت السلف لا تردّ على الإطلاق. وهذا ما أضاء عليه تقرير ديوان المحاسبة في العام 2021 إذ فصل سلفات الخزينة المعطاة من 1995 إلى 2018 ضمناً، وأوصى بوجوب ردّ هذه السلفات المتراكمة من الجهات التي اقترضتها.

قطع الحساب هو الأساس

إشكالية السلفات كان ممكناً حلها تلقائياً لو أدرج قطع الحساب على جدول جلسة مجلس النواب لتتمّ المصادقة عليه قبل إقرار الموازنة. فيتبيّن عندئذ للمشرّعين مقدار السلفات المعطاة، وعلى أيّ أساس أعطيت، ولماذا لم تستردّ. ويمكنهم مساءلة الحكومة عن عدم التزامها القانون، وطرح الثقة بها وإسقاطها، أو طلب ردّ الموازنة كلها.

مصير المواد الإشكالية

من المتوقّع بحسب صالح أن يصدر قريباً قرار يقضي بـ "تعليق المواد المرتبطة بفرض ضريبة على كلّ من استفاد من صيرفة ومن الدّعم، لأن من استفاد منهما هم القيمون على الدولة أنفسهم". وكان الأجدى إخضاع كلّ من استفاد من أموال بطريقة غير مشروعة والحقّ خسائر بالمال العام والغير، "للقانون 240 الذي يفرض التدقيق الجنائي في كلّ المؤسسات التي استفادت من أموال الدعم"، من وجهة نظره. "لا أن يفرض عليه تسديد ضريبة. وبالتالي تشريع جميع المبالغ التي تمّت الاستفادة منها من غير وجه حق".

قرار المجلس الدستوري بإيقاف العمل ببعض مواد الموازنة، ما هو سوى مؤشّر ينبئ بأنّ "المجلس" لن يبطل الموازنة كلها رغم مخالفاتها وعدم تضمّنها قطع الحساب"، برأي صالح. "فلو كان يريد إبطالها لبحث في الأساس ولم يعلّق موادَّ". وعليه "سيخالف الدستور المؤتمن على تطبيقه، مرّة جديدة". وذلك على غرار ما كان يحصل في السنوات السابقة بحجّة أنّ "البلد ليس بوضع طبيعي كي نطلب من الحكومة ومجلس النواب وجود قطع حساب في الموازنة"، بحسب ما قال رئيس المجلس الدستوري القاضي طنّوس مشلب خلال إعلانه القرار المتعلّق بالطّعن بقانون الموازنة العامة لعام 2022.