يحلو لكثرٍ ممن لا يعترفون بلبنان وطنًا، أو ممَّن يريدونه تابعًا أو جزءًا من كلِّ، أو ممن لا يقيمون اعتبارًا لتاريخه الذي قال فيه غبريال هاتونو إنه "أعلى قمة في التاريخ"... هؤلاء وغيرهم يحلو لهم أن يتهكَّموا على لبنان، فيستعملون بيتًا من قصيدة، "ولبنان شو لبنان، هـ الكم أرزي العاجقين الكون"، وينسبون البيت، زورًا وبهتانًا، إلى سعيد عقل، علّهم بذلك يمعنون في التهكم، على أساس أن شاعر "قدموس" يبالغ في حب لبنان. فيما الحقيقة أن البيت هو ليونس الابن، من قصيدة طويلة في لبنان، صدح وديع الصافي بأجمل أبياتها "لبنان يا قطعة سما".
تْأَمَّلْ، تأَلَّمْ، حَبّ، جَنّ... وْماتْ
وْهَيْك الْعمرْ... أَرْبَعْ خَمسْ كِلماتْ.
بهذه الـ"أربع خمس كلمات" اختصر يونس الابن العمر، وكتب عمره ونعيه قبل أن يرحل مطلع تشرين الثاني من العام 2012، عن ستة وثمانين عامًا. مثلما شاء أن يختصر اسمه، قبل أن تدرج تسمية "جونيور"، فتحول يونس يوسف يونس... يونس الابن، على ما عرفناه.
رحل عن الحميص قريته الوادعة في قضاء زغرتا، غارفًا منها العلم على أبيه الشاعر والرسام يوسف يونس، وكم اشتاق إليها، آن يكون عنها بعيدًا، فخلَّدها بصوت عازار حبيب، في إحدى أجمل الأغنيات:
"يا رايح، ع ضيعتنا
برجوعك صوبي حَوِّل
طالِتْ عنها غيبتنا
يطوِّل عمرَك لا تْطوِّل".
ورحل عن لبنانه "يا قطعة سما لْـ ع الأرض تاني ما إلا"، كما صدح وديع الصافي منذ أكثر من 65 عامًا، وما زال "البلبل الحلو" مذذاك يسبح ويصبِّح الوطن الذي رأى الشاعر الراحل أنه "للدنيا صباح". وفي القصيدة نفسها التي صدَّر بها ديوانه "أبو لبنان وحرب السنتين"، مقطع آل إلى أغنية أخرى، كما أسلفتُ، وراح كثر يتهكمون بالمبالغة التي في شعرها وينسبونه إلى هذا وذاك من الشعراء، لكنه هو، يونس الابن، من قال في لبنان، بصوت سليم الطباع وبلحن وليد غلمية، "شو لبنان؟ هـ الكمّ أرزي العاجقين الكون/ هـ القبل ما في كون كانو هون".
حب للوطن جسَّده بأن أطلق اسمه على ابنه البكر، حتى بات "أبو لبنان"، طَوال حرب السنتين، رفيقَنا كل صباح، عبر أثير إذاعة "صوت لبنان"، يكسر شر الحرب بقصيدة، ولو موجعة، ويزرع بعض فرح في نفوس متألمة وقلقة.
شاعر يونس الابن، بلغات ثلاث: اللبنانية المحكية والعربية الفصحى والفرنسية. ومسرحي له في بدايات المسرح الغنائي اللبناني مسرحيات عكست روح القرية اللبنانية والتراث والفولكلور. ورسام اشتهر بتجسيد البورتريه بالفحم الأسود. وخطاط من قلة حافظت على أصول الخط العربي بكل تلاوينه. وصحافي تولى الشأن الثقافي، خصوصًا في منشورات "دار الصياد". وإلى ذلك كله، لغوي بارع كنه أسرار لغة الضاد وعلَّم، وميَّز فيها بين الخطأ والصواب.
امتاز شعره بالمحكية اللبنانية ببساطته وعمقه، وبالحالات الإنسانية التي جسدها، وكان للقرية فيها، ومن ثم للمرأة، وحتى للجانب الحكمي الحيز الأبرز. لم يكن زجالًا صافيًا، ويمكن عدُّه من ضمن من انتهجوا نهج الرائد ميشال طراد. وله في لغة أمه ضمة دواوين، منها: "أحلام"، "أربع خمس كلمات"، "سلمى"، "أنا فقير"، "أبو لبنان وحرب السنتين"، "الكتاب المكدَّس".
امتاز شعره بالمحكية اللبنانية ببساطته وعمقه، وبالحالات الإنسانية التي جسدها، وكان للقرية فيها، ومن ثم للمرأة، وحتى للجانب الحكمي الحيز الأبرز
أما شعره بالعربية الفصحى فيجسده ديوانه "ألف ليلى وليلى"، وهو الذي غربل فيه كل ما كتب، وشاء أن يكون شهريار الشعر راسيًا على بضع قصائد، بسيطة اللغة، تنطوي كلها على قصص قصيرة من يوميات علاقة عاشقين، وخليلية الأوزان، وإن غير عمودية دائمًا، وكثيرًا ما توج بيت قصيدها بطرفة موجعة. كمثل قوله في قصيدة "خوفي منك":
قُلْ لي، طَمْئِنّي، قُلْ إِنِّي
مُسْرِفَةٌ في بَعْضِ الظَّنِّ
مَا خَوْفي مِنْكَ إِذا طَوَّلْتَ
الْقُبْلَةَ، بَلْ خَوْفي مِنِّي
تَجْرِبَتي، في الدُّنْيا، صِفْرٌ
وَهُمومي أَكْبَرُ مِنْ سِنِّي
أَكَما تَحْكي عَنْ سابِقَتي
سَتُخَبِّرُ لاحِقَتي عَنِّي؟
أو كتوجهه بالحديث إلى صبية أغرم بها الشاعر الكهل، ومما قاله:
مُرِّي وَقُولِي مَرْحَبَا
تَجِدِي الْمَكَانَ الْأَرْحَبَا
حَسْبِي وَحَسْبُكِ أَنْ يُرَنِّحَكِ
اللِّقَاءُ وَأَشْحُبَا
فَجِئْتِ ثَعْلَبَةً تُغَالِبُ
ثُمَّ تَغْلِبُ ثَعْلَبَا،
... لَا شَيْءَ يَرْتَجِلُ الرُّجُولَةَ
فِي الْكُهُولَةِ... كَالصِّبَا.
أما أبرز المسرحيات التي شارك فيها تأليفًا أو بوضع أغانيها، فهي: "حكايات من لبنان"، "الشلال"، "مسبحة ستي"، "هاك الغربي". واشتهرت له أغان بأصوات كبار من لبنان: "لبنان يا قطعة سما" (وديع الصافي)، يسلم لنا لبنان (صباح)، وينك يا جار شرِّفنا ع الصبحيي (دنيا يونس)، ملوَ الدني لبنان (سليم الطباع)، عنا جار (دورا بندلي)، يا رايح ع ضيعتنا (عازار حبيب).
يونس الابن الذي كان حالًا فريدة في شخصيته الطريفة وسعة معرفته ومروحة الفنون الواسعة التي أتقنها، تنسَّك في صومعة "القرف" من كل ما يحدث قبل أن يرحل بسنوات، وآثر الابتعاد عن الشهرة والأضواء، ولم يعد يطلّ إلّا بزاوية شعرية في صحيفة "الأنوار"، حتى إذا ما دهمه المرض، راح ينهش جسده مسامًا مسامًا، لينطفئ قنديلٌ، كان وسيبقى يزين سهراتنا شعرًا وأغنيات... فمن بعد يونس سيجرؤ على القيام بـ"خناقة مع ألله"، بقصيدة جرت على كل شفة ولسان؟
قال فيه ميخائيل نعيمة، مقدِّمًا ديوانه "أبو لبنان وحرب السنتين": "فأنت قد جنحت بالكلمة العامية اللبنانية، وأعطيتها من قوة الدفع وطول النفس ما يؤهلها لارتياد آفاق إنسانية واسعة وبعيدة، ورائعة كآفاق لبنان".
يونس الابن، "أبو لبنان"، العين تبكيه، والذاكرة تحفظ له الكثير، أمَّا الوجدان فيصنِّفه بين الكبار، وأما الشعر فسيفرد له في بحور حبره زورقًا شراعه خيال ابن الحميص الذي لمَّا ينضب.