انتهت أول من أمس المهلة التي أعطتها مؤسسة كهرباء لبنان لـ "زميلاتها" من مؤسسات الدولة ومصالحها المستقلّة لتسديد الفواتير المتأخّرة تحت طائلة قطع التيار. "الكهرباء" التي بدت جادّة في "تهديدها" ستواجه العديد من المعوّقات المعنوية والمادية إنْ هي خطت نحو تنفيذ كلمتها. فهل تتحمّل مسؤولية عودة إقفال الإدارات العامّة من "شباك" الكهرباء، بعدما خرجت هذه الإدارات من الإضراب العام من باب زيادة الرواتب؟!

تتراكم في ذمّة الإدارات والمؤسسات والمصالح العامّة فواتير متأخّرة لمصلحة الكهرباء تعود إلى الفترة الممتدّة من الأول من تشرين الأول 2022 إلى نهاية حزيران 2023. وتُختصر أهمية هذه الفترة في ثمانية أشهر، لكونها تتزامن مع دخول التعرفة الجديدة للكهرباء حيّز التنفيذ. أي أنّ المتوجبات على الجهات العامّة أصبحت وازنة، والتخلّف عن سدادها يحرم مؤسسة الكهرباء من مبالغ مالية كبيرة، كانت قد قدّرتها "المؤسسة" بشكل إجمالي، بحسب آخر دراسة مالية، بـ 107 ملايين دولار في السنة الواحدة.

وبإزاء هذا الواقع، أصدر مجلس الوزراء مرسوماً حمل الرقم 12816 تاريخ 21 كانون الاول 2023 نصّ على: "إعطاء سلف خزينة إلى الإدارات والمؤسسات والمصالح العامّة، وفقاً للمبلغ المحدّد تجاهها في جدول خاص، من أجل تمكينها من تسديد فواتير الكهرباء المتأخّرة عن الفترة المذكورة".

تتراكم في ذمّة الإدارات والمؤسسات والمصالح العامّة فواتير متأخّرة لمصلحة الكهرباء 

السلفة لم تدفع إلى الكهرباء

على الرّغم من صدور المرسوم في الجريدة الرسمية في 21 كانون الأول 2023، فإنّ مؤسسة كهرباء لبنان لم تتلقّ من وزارة المال إلا "حوالات صفرية"، بحسب محلّل سياسات الشراكة بين القطاعين العام والخاص في المعهد اللبناني لدراسات السوق غسان بيضون. "فوزارة المال استردّت من هذه السلفة، قيمة سلفات سابقة معطاة إلى مؤسسة كهرباء لبنان". بمعنى آخر، بدلاً من أن تسدّد "المالية" دين المؤسسات، حسمت ديوناً متراكمة على الكهرباء من سلفات سابقة. ومن المرجح أن تكون "المالية" قد ارتكزت على ما نصّت عليه المادة 13 من موازنة العام 2018 التي ألزمت مؤسسة كهرباء لبنان ممثلة بوزارة الطاقة وبالتعاون مع وزارة المال، بوضع آلية لجدولة ديون المؤسسة وتحديد كيفية تسديدها. وعادت بقانون الموازنة للعام 2019 وفي المادة 13 نفسها، المحجوزة تاريخياً لسلفات الكهرباء، وأعطت الكهرباء سلفة جديدة مشروطة بتسديدها بالآلية عينها المذكورة في العام 2018. وكذلك فعلت موازنة 2020 التي حجزت سلفة للكهرباء بشرط تسديدها وفق الآلية الموضوعة في العام 2018. ويتذكر غسان بيضون "عندما أقرّت السلفة الأخيرة بقيمة ألف مليار ليرة، تعادل 11 مليون دولار بحسب سعر صرف السوق، في المرسوم الرقم 12816 تاريخ 21 كانون الأول 2023 لتسديد فواتير الجهات العامة، خرجت أصوات تعترض من مؤسسة الكهرباء على أساس أنّ الحكومة تعطيها حوالات بقيمة صفر. أي أنّ "المالية" تنفذ مقاصّة مالية، فتخصم ديوناً قديمة، بدل دفع مستحقات جديدة. ولم يصل إلى حساب الكهرباء أيّ مبلغ".

قطع التيار صعب معنوياً

هذا من الناحية التقنية البحت، التي يتداخل فيها الجهل بالقوانين وأصول المحاسبة العمومية مع خرقها وعدم احترامها. أمّا معنوياً فإنّ "الإنذار بقطع التيار بحقّ المؤسسات العامة، وإن كان تنبيهاً ضرورياً من واجب الكهرباء أن تعلنه، فمن المحتمل أن لا ينجح لأكثر من سبب"، برأي بيضون. "فالفواتير المقوّمة بحسب التعرفة الجديدة تحمل العديد من المخالفات". وهو ما اضطر المؤسسة مثلاً إلى التراجع أخيراً عن بعض هذه المخالفات وإلغاء بندين أساسيين كانا مدرجين في التعرفة، وهما: بدل التأهيل لجميع اشتراكات التوتر المتوسط والتوتر المنخفض. والتحوّط بنسبة 20 في المئة التي كانت مضافة إلى سعر منصة صيرفة في احتساب سعر الصرف الدولار مقابل الليرة.

هذا من ناحية، أمّا من الناحية الثانية، فلكي تستطيع الإدارات والمؤسسات والمصالح العامة ولا سيما المياه والبلديات تسديد الفواتير المتوجبة، يفترض أن تكون هناك اعتمادات متوفرة في موازناتها تسمح لها بتخصيص المبالغ المفروضة في الفواتير. خصوصاً عن الفترة الزمنية التي تلت حزيران 2023. ذلك مع العلم أنّ مستحقّات الكهرباء تدفع مضاعفة 60 مرة، في حين أن إيرادات البلديات، بحسب موازنة 2024، لم تتضاعف إلّا ما بين 20 و30 مرة. فكيف لها أن تسدّد متوجبات أكثر مما تحصل من إيرادات.

أمّا في ما يتعلّق بمؤسسات المياه التي تصل قيمة فواتيرها إلى أرقام كبيرة جداً، والتي كان قد خصّها بيان مؤسسة كهرباء لبنان بالتفاتة خاصة، من خلال التشديد على "ضرورة استجابة الإدارات والمؤسسات العامة بما فيها مصالح المياه وعموم أشخاص القطاع العام لتسديد موجباتها المالية من فواتير الكهرباء فور استحقاقها"، فهي غير قادرة على تسديدها. فإيراداتها لم ترتفع إلّا عشرة أضعاف خلال العام الماضي، و15 ضعفاً هذا العام، فكيف لها أن تسدّد فواتير مضاعفة 60 مرة؟ وهل تتحمل الكهرباء انقطاع المياه عن المشتركين بسبب قطع الكهرباء؟

تنظيم العلاقة بين الكهرباء والدولة

إضافة إلى ذلك، يفترض المنطق بحسب بيضون "تحديد قيمة الديون المتوجبة على الدولة بذمّة مؤسسة الكهرباء. ذلك أنّ العلاقة بين الأخيرة والدولة هي علاقة موجبات وحقوق. فلا يمكن تحديد المتوجبات لمصلحة الكهرباء والتغاضي عن الديون المتراكمة عليها. ويٌذكر أنّ الكهرباء لا تسدّد قيمة المحروقات للمعامل من العراق. وعليه، من المفترض قبل البدء بقطع التيار عن المؤسسات أن تعالج "الفوضى المالية في الكهرباء ووضع العلاقة بين المؤسسة والإدارات والبلديات والمؤسسات العامة الأخرى في نصابها الصحيح، خاصة مؤسسات المياه. وأن يكون بإمكان المؤسسات العامة تسديد فواتيرها من الاعتمادات المخصصة لها في الموازنة كما يفترض المنطق.

بعد أيام قليلة "يتبيّن خيط" قطع التيار الأسود من خيط الاستمرار والتأجيل "الرمادي". مع العلم أن البيان العالي السقف لمؤسسة الكهرباء قد يكون مقدّمة لطلب سلفة جديدة تدفع هذه المرة للكهرباء بدلاً عن المؤسسات العامة.