أتابع استعادة كبار من النسيان. أمس فرح البيانو بأنامل وليد عقل. واليوم ثمة عصا ستشهد لذاك المايسترو الحقيقي، أنه المعلم المعلم.

توفيق الباشا، ابن بيروت، التي ولد فيها عام 1924، تنحني له إجلالًا عصا المايسترو.

ومذ غاب في كانون الأول من العام 2005، ترك أيتامًا كثرًا: أعمالًا موسيقية تنوعت بين المقطوعات والموشحات والسمفونيات، فضلًا عن مئات الأغنيات، بأصوات مطربات ومطربين كبار، لم يبثها أحد، ولم يضئ عليها أحد، ولم تُقم له ذكرى أو مناسبة يستعادُ هذا الرائد في الموسيقى، من خلالها.

إلا إذا تذكرنا حفلة موسيقية في افتتاح الدورة الشتوية للمعهد الوطني العالي للموسيقي، في بيروت، عام 2016، أقيمت على مسرح قصر اليونيسكو، تحية له، أحيتها الأوركسترا الوطنية اللبنانية للموسيقى الشرق - عربية بقيادة المايسترو اللبناني أندريه الحاج، وفي حضور نجل الراحل عازف البيانو العالمي عبدالرحمن الباشا ومشاركته.  


يضاف إلى ذلك، احتفال أقامه برنامج "مشاعل النهضة" في "مؤسسة سعاده للثقافة" استمر عشرة أيام من كانون الأول 2020.


غاب توفيق الباشا...

فإذا بالسَّمفونية تدمع على غياب نصفها الَّذي سعت طويلًا إلى إيجاده.

وإذا بالتَّأليف الموسيقيّ يحزن لخسران الجدِّيَّة والعلم والمعرفة وسعة الثَّقافة المقرونة جميعًا بالموهبة.

وإذا بالذَّاكرة اللُّبنانيَّة تفقد بعضًا كثيرًا من ذاكرتها وأسرارها، إذ كيف تستمرُّ غنيَّةً أمينة على التُّراث والموروث الشَّعبي من دون أن يأخذ ذاك الطَّليعيُّ المؤسِّس بيدها؟ وإذا بمسارح المهرجانات التي وقف فيها، خصوصًا مهرجانات فرقة الأنوار، قائد أوركسترا بارعًا، تفسح له في الغصَّة والدَّمع.

وإذا بالإذاعة تنتفض على واقعها المرير لتستعيد حضوره الرَّائد فيها وتتفيَّأ بصمات تركها في كلٍّ من زواياها وأشرطتها وميكروفوناتها... وأصوات مطربيها وأنغام ملحِّنيها وأبيات شعرائها.

وإذا بـ"عصبة الخمسة" الَّتي أسَّست للأغنية اللُّبنانيَّة، تتحسَّس جسدها وروحها، فتحزن عليه وعلى عاصي رحباني وزكي ناصيف وعبد الغني شعبان، ومنصور رحباني وتوفيق سكَّر.

وإذا بالموشَّحات والقصائد تستوي على فراش من القلق. فمن يحييها مثله ويثبت للجميع أنَّها فنٌّ حديث غنيٌّ متطوِّر أنغامًا ومقامات وإيقاعات وأساليب شعريَّة، وليست مجرَّد فولكلور، على عظمة الفولكلور؟


وإذا بـ"بخلاء" الجاحظ والتِّلفزيون يشكرون له أنَّه جعلهم على كلِّ شفة ولسان... "البخ بخ بخل زينتنا". ولسان حاله معهم ومع غيرهم ومحمَّد شامل أنَّ "الدُّنيا هيك ومش هيك".

وإذا بالعمل النَّقابيِّ يأسف أنَّه لم يفد من خبرة ذاك الإداريِّ المنظَّم، بترؤسه جمعية المؤلفين والملحنين وناشري الموسيقى في لبنان بين العامين 1969-1986، فغار في التَّشرذم والخلافات ووثير الكراسي وإغراءات المناصب والجلوس في الصُّفوف الأماميَّة.

وإذا بالسَّاح الفنِّيَّة تشتاق إلى "ضروبه" مع الفنَّانين، ومنها مثالًا لا حصرًا تحويله أغنية "يا طالعين ع القمر" الَّتي كان مؤلِّفها وملحِّنها الرَّاحل سامي الصيداوي يفتِّش في مبنى الإذاعة اللُّبنانيَّة عن المطربة وداد (زوجة الباشا آنذاك وكانا على خلاف) لدخول السّتوديو وتسجيلها... تحويله إيَّاها إلى الكبير وديع الصَّافي، بحجَّة أنَّ وداد لم تأتِ، ولن... وعلى الرَّغم من ذلك توَّج الزَّوجان انفصالهما لاحقًا بالأغنية الرَّائعة "لا تقل تحبُّني فالحبُّ لا يقال".

وإذا بكتاب الثَّقافة الموسيقيَّة، الشَّرقيَّة والغربيَّة على السَّواء، يطوى على صفحة مشرقة، هيهات أن تليها صفحات بمثل ذهبها. تشهد على ذلك، مؤلفاته في علم الموسيقى الشرقية، وهي: "المختار من الموشّحات الأندلسية" (تحقيق وتأليف)، "الإيقاع في الموسيقى العربية" (تحقيق وتأليف)، "الكمان والأرباع الصوتية"، فضلًا عن مقالاته المتخصصة في الصحف والدوريات.



غاب توفيق الباشا... فإذا بالسَّمفونية تدمع على غياب نصفها الَّذي سعت طويلًا إلى إيجاده.

رحل توفيق الباشا، بعد معاناة مع المرض، عام 2005، ولم يكن استكان حتَّى في ثمانين سنيِّه، متابعًا البحث والتَّأليف والعمل من أجل موسيقى شرقيَّة (لم يكن يصفها بالعربيَّة) تضاهي الغربيَّة إن لم تفقها جمالًا وعمقًا وأبعادًا وعلمًا ومعرفة وثقافة، في مختلف وجوهها: الأغنية القصيرة، المقطوعة الموسيقيَّة القصيرة، المقدِّمات والفواصل الموسيقيَّة، الموسيقى التَّصويريَّة، السَّمفونية ("بيروت 82"، "السَّلام"، "الليل" و"قدموس وأوروبا"، وهما  من شعر سعيد عقل، "فوق البنفسجيَّة: اللامقاميَّة")، الإنشاديَّة النَّبويَّة (الأوبِّراليَّة النَّمط والمنحى)، فضلًا عن تجسيد التُّراث والتَّاريخ بالنَّغم، ووضع الموسيقى التصويرية لخمسة أفلام تسجيلية طويلة.

يرحل عازف الفيولونسيل الَّذي سمع نصيحة خاله خليل مكنيَّة وغبَّ من نبع الموسيقى، علمًا وثقافة، حتَّى ارتوى... وفي ذاكرتي عنه مشهد لا ينسى:

كانت إطلالة نجله عازف البيانو العالميِّ عبدالرَّحمن الباشا، الأولى في لبنان، مطلع التِّسعينات أمام جمهور عريض في مسرح جامعة الكسليك. عبدالرَّحمن يسحر العقل والقلب عزفًا وتأليفًا، وتوفيق الباشا في مقعده يطير فرحًا، ويقول في قرارة نفسه: هذا هو ابني الحبيب الَّذي به أُسرُّ وتُسرُّ الموسيقى. وتوفيق الباشا يتلقَّى التَّهانئ، كمثل ولد صغير فرح بهديَّة العيد.

رحل توفيق الباشا... بقيت الموسيقى، موسيقاه. ولكن هل من ينفض الغبار عنها فيحييها ويقدمها إلى العامة، لتكون موسيقاه موسيقانا؟