يتساقط الذين صنعوا فرحنا، في ما مضى، كأوراق الخريف. أمس خسرنا ثلاثة انطفأوا كشهبٍ لم يتَّسع لهم فضاء: الإعلامي كميل منسى، المسرحي أنطوان ملتقى، الممثل فادي إبراهيم.

تراني، في غمرة عبارات النعي الكثيرة، أستذكر أيضًا من سبقوهم، ومنهم من كانوا قامات عالمية، فغاب الحديث عنهم، كأنهم برقٌ عبر، ليس إلَّا.

وأكثر من يخطرون على بالي، عازف البيانو اللبناني العالمي وليد عقل الذي يكفي ما كتبته عنه الصحافة العالمية فقارنته بعازف البيانو والمؤلف الروماني دينو ليباتي نظرًا إلى الشاعرية والأسلوب الرفيع الذي تميّز به أداؤه سوناتاتِ المؤلف الإيطالي دومينيكو سكارلاتي: "عندما يجلس وليد عقل إلى البيانو، يخال لك أنك ترى شوبان، ويتحوّل سحر النظر إلى سحر السمع... جسده ويداه وكأنّها من دون حراك، إلَّا أنَّه بارتفاعه وتحرُّكه القليل، يُخرج من البيانو الكثير".

لا أظنُّ وليد عقل إلَّا عازفًا أوَّل في أوركسترا الحقيقة الأخرى.

وليد عقل الذي تعرفت إليه، وقابلته مرّتين، رحل وحيدًا، في باريس إثر جراحة قلب مفتوح، في 29 أيلول من العام 1997. ولم يأتِ أحد على ذكره مذذاك. غريب!!!

كانت أنامله، عام 1997، على موعد مع ملامسة السِّحر ومعانقة الجمال، في لوحة من أبدع ما رسمه الله على الأرض، وكان جمهوره على موعد معه في مغارة جعيتا يجسِّد به حلمًا طالما راوده... أن يعزف في تلك المغارة. لكنَّ الموعد لم ينكسر، بل تحوَّل إلى مكان آخر... ليصبح وليد عقل العازف الدَّائم في أوركسترا السَّماء، يجرع كأس السَّمفونيَّة الإلهيَّة... ولا ثُمالة. 52 عامًا عاشها العازف اللُّبنانيُّ العالميُّ، ابن بلدة المحيدثة المتنيَّة اللُّبنانيَّة الجميلة، وابن العواصم الكبرى والحضاريَّة الَّتي استضافته مسارحها حيث حفر إبداعًا وزرع فرحًا وترك نشوة ودهشة وانتزع إعجابًا وتصفيقًا، لن ينقطع صداه. ولكن كيف كان لهذا النَّاحل المتواضع الخجول أن يعتلي عرش الشُّهرة هذا، هو الَّذي خالف ما كان يسود، وتميَّز عن عازفين كثر؟ قبل الجواب، إيضاحات.

لم يدرس وليد عقل الموسيقى ويشرع في العزف، كما العازفون الكبار، منذ الصِّغر. طرق باب هذا العالم وهو في الرَّابعة عشرة، السِّنِّ المتأخِّرة نسبيًّا لمن ينوي المغامرة فيه. إلَّا أنَّ أصابعه الَّتي بدأت تقسو، كانت متجاوبة مع إرادته، فانقادت لهذه الإرادة، وقطع في سنوات قليلة، مسافاتٍ تتطلَّب مع غيره سنواتٍ وسنواتٍ. وصار وليد عقل، ما أصبح عليه لاحقًا. ووليد عقل لم يغرِه، وحسب، السَّائد من الموسيقى الكلاسيكيَّة والَّذي أصبح شعبيًّا في الذَّاكرة الجماعيَّة، بل تطلَّع إلى أعمق أيضًا، وغاص يفتِّش في الجذور، في المميَّز، في ما يجعله يؤجِّج البركان الدَّاخليَّ المتفجِّر دائمًا فيه، فيخطف سامعيه إلى جنَّة الفرح، من دون أن تتسبَّب حممه لهم بأيِّ أذًى. ووليد عقل لم يسعَ وراء شهرة، هو الَّذي قالت فيه مجلَّة فرنسيَّة يوم قدَّم عمله الأوَّل "احفظوا اسم هذا المراهق جيِّدًا". كان حاضرًا في كلِّ مكان، من دون أن يشعر أحد وطأةَ حضوره. كان ينزوي في منزله الرِّيفيِّ اللُّبنانيِّ، أو في منزله الباريسيِّ البعيد عن الضَّوضاء أيَّامًا وأسابيع وأشهرًا، منصرفًا إلى عمل ما، من دون أن يجعل أحدًا يشتاق إليه، لقوَّة حضوره الصَّارخ. ولم يقتفِ أثر جائزة أو مهرجان أو وسام، لأنَّ همَّه الأوَّل الوحيد كان أن يشاركه النَّاس سعادته في ما ينتقي من مقطوعات ليقدِّمها في "ربيرتوار" على أسطوانة أو في حفلة عامَّة. سألته، حين حاورته، "غريب أن ليس في منزلك في الأشرفية أو في المحيدثة أي كأس أو ميدالية أو شهادة تقدير، من مسابقة عالمية". أجابني: "لا أشارك في مسابقات البتة، مهما بلغت أهميتها، وقيمتها المادية. فمع احترامي لأعضاء أي لجنة، أسأل نفسي: أي من أعضاء تلك اللجان يعزف أفضل مني، لكي يقوِّم عزفي...؟".

"ترهبن" وليد عقل للموسيقى الكلاسيكيَّة. واختار من مبدعيها "شفيعًا"، هو النَّمسويُّ هايدن، وعاش معه في شبه صومعة عشر سنوات، حتَّى "بعثه حيًّا" أعمالًا كاملة، معروفة ومنسيَّة ومجهولة، بأفضل ما يمكن عزفًا متقنًا رائعًا، قد لا يجرؤ أحد على تكراره إلَّا بعد خمسين من السِّنين. وقُل أكثر. حتى إنه كان يحتفظ في منزله الفرنسي بآلة البيانو التي كان هايدن يملكها ويعزف ويؤلّف عليها. أحبَّ وليد عقل، كما لا أحد، موسيقيِّين كبارًا، هم فلاسفة في الموسيقى أيضًا، وراح يقدِّم مقطوعاتهم "الصَّعبة"، لا ليتباهى على نظرائه، أو ليصدم سامعيه، بل ليبادلهم فرحًا بفرح، وروعة سماع بروعة عزف، وذوقًا رفيعًا بذوق أرفع... وليقول إنَّ الموسيقى موسيقى، وبمقدار ما يؤنسنها العازف (أو المؤلِّف)، تصبح قريبة من النَّاس، وتتماهى بهم.

إيضاحات... تسبق الجواب. والجواب أنَّ وليد عقل "ضحَّى كلَّ حياته في سبيل البيانو"، فلِمَ لا يكون ما يقدِّمه في مستوى هذه التَّضحية؟ كانت إرادته الصَّلبة نقيض هزاله الجسديِّ، وحبُّه للحياة ومرحه وغرائبيَّته نقيض جدِّيته المفرطة وهو أمام البيانو، فعرفه هكذا من التقاه أو تعرَّف إليه من كثب أو عاشره طويلًا... ولم يكونوا جميعًا مخطئين. وليد عقل "مجنون هايدن" التقتيه، كما أسلفت، مرَّتين، في حديثين صحافيَّين. مرَّة عام 1988 في منزله في الأشرفيَّة وكان فرغ من إنجاز أعمال هايدن في 14 أسطوانة. ومرَّة عام 1991 في منزله في المحيدثة، وكان يفكِّر في اثنين: وضع كتاب عن يوليوس قيصر الشَّخصيَّة الَّتي أذهلته، وعزف مقطوعات للفيلسوف الألمانيِّ، نعم مقطوعات موسيقيَّة للفيلسوف فردريك نيتشه، "اكتشفها" ولم يشأ أن يبقيها كنزًا دفينًا، وكان تقديمه إيَّاها في حفلات شتَّى كمن يوزِّع ثروة عثر عليها، على كلِّ مَن حوله، فيتساوى الجميع في الغنى. وقد أصدر عقل كتابه عن يوليوس قيصر مرفقًا بقرص مدمج لأعمال نيتشه الكلاسيكية، وقد عزفها على البيانو.


هكذا عرفت وليد عقل، ولا أظنُّه غير ذلك، إنسانًا "غيريًّا" يفرح عندما يعطي الغير، ولو لم يحصل شخصيًّا على شيء. وعرفته أكثر، بعدما عرفت عنه وسمعت واستمعت إليه. وكان يقلقه أن يموت، لكنَّه كان مجبرًا على تقبُّل هذه "المشكلة الفظيعة" كما قال. تقبَّلها هو، وتقبَّلناها نحن، لأنَّ الموت هو الحقيقة الوحيدة، على الأرض. لكنَّ السَّماء غنيَّة هي أيضًا بحقائق كثيرة، أهمُّها الخلود. ولا أظنُّ وليد عقل إلَّا عازفًا أوَّل في أوركسترا الحقيقة الأخرى. وليد عقل... سامحني أني استعدتك، في غمرة الخسارات، ولو انتهت الحفلة. ولكن، صدقني، لن يسدل السِّتار.