"أنا عاجز عن التركيز، كثير الحركة والنسيان، مهمل وغير منظّم"، بهذه العبارات يصف داني عبد المسيح نفسه، هو ابن الـ45 عاماً، موظّف في قسم الـit في إحدى الشركات الخاصة في لبنان، (اسم مستعار لتفضيل المريض عدم الكشف عن اسمه) متحدثاً عن معاناته مع مرض الـADHD، مشاركاً تجربته مع "الصفا نيوز"، سارداً كيف ظهرت أعراض هذا المرض عليه منذ الطفولة، وكيف رافقته ما بعد تخرّجه من الجامعة حتّى مرحلة الشفاء. 

رحلة عذاب 

يقول عبد المسيح "بدأت الأعراض تظهر في سنّ مبكرة، عند عمر الـ4 سنوات، إذ كنت في مدرسة القلبين الأقدسين عين نجم، وأجد صعوبة في الجلوس على مقعد الدراسة والتركيز مع المعلّمة في ساعات الدرس. لذلك كنت أرسم على الأوراق، وعلى الحائط، وعلى الطاولة، وحتّى على نفسي أحياناً، فكنت كثير الحركة وأعيش في فوضى دائمة وأهوج". 

ويتابع "كان أساتذتي يشكون من كثرة حركتي وعدم انضباطي ومن مشاغبتي الدائمة، ويطالبونني بأن أهدأ وأضبط تصرّفاتي. فإن لم يكن لديّ أيّ شيء أقوم به أبدأ بالعراك مع أصدقائي، فأرمي أقلامي عليهم أو أرسل لهم مكاتيب، أو أمزّق أوراقاً من دفتري وأجعلها على شكل كرة وأرميها عليهم، كما كنت أكسر أقلامي، وأتفنن في تخريب قرطاسيتي. حتى ألعابي حُطّمت جميعها، وكنت أعاني من مشاكل في التواصل مع زملائي في الصف، حيث لا أشارك أيّاً من أغراضي مع أنني كنت أهملها كما أهمل علاماتي، فلا أكترث لرسوبي أو نجاحي. وهذه الخصال رافقتني حتّى الجامعة، وسببت لي الكثير من المشكلات". 

ويلفت عبد المسيح إلى أنّه "لم يلحظ أحد أنني مريض، لا أساتذتي ولا أهلي ولا أقاربنا، فالكلّ كان يعتبرني فوضوياً، ومدلّلاً، وكان، برأيهم، أنّ هذا هو سبب كثرة حركتي وكلامي، كما لم يكن هناك وعي كاف في تلك الفترة حول علم النفس والأمراض النفسية". 

وأضاف ضاحكاً "نعم، كنت كثير الكلام، لا أسكت، ولا أتقبّل الهدوء، ولا أتوقّف عن طرح الأسئلة، وكنت حشرياً، وتراودني أحلام في اليقظة. فكان يكفي أن أكون مع أشخاص لأبدأ بتخيّل قصص وسيناريوهات أذهب من خلالها إلى عالم آخر. فأتخيّل كأنني في فيلم أنا بطله وتواجهني أحداث عليّ حلّها. ولم أكن أعرف أنني أعاني من مشكلة حقيقة إلى أن دخلت سوق العمل وبدأت رحلة العذاب، إذ عجزت عن الاستمرار في وظيفة واحدة لأكثر من شهرين، وبقيت أتنقل من وظيفة إلى أخرى، لأسباب عدّة، أهمها كثرة الكلام، وحركتي الزائدة، وعدم قدرتي على التركيز. كنت أعيش في جحيم حقيقية، وبدأت أعتبر أنني غير طبيعي، وعكس البشر وأستغرب لماذا أنا عاجز عن الاحتفاظ بوظيفة كباقي أصدقائي، وأصبحت أشعر أنني منبوذ". 

وفي إحدى جلساتي مع أصدقائي، يسرد عيد المسيح، "صودف أنّ إحدى الموجودات كانت طبيبة نفسية، وبعد أن استطردت في الحديث معها لفتت نظري إلى أنني أعاني من مرض يعرف بالـADHD. وهنا بدأت رحلة علاجي، فعلى الرّغم من أنّه من الصعب جدّاً أن يشفى الشخص من هذا المرض، وليس هناك أي دواء يمكن أن يساعدني على تخطيه، بدأت أمارس بعض التمارين التي حسّنت من تركيزي، وسمحت لي بضبط تصرفاتي، وأصبحت أكثر هدوءاً، وأكثر وعياً، كما أنّ الرياضة لعبت دوراً مهماً في حياتي، إذ أصبحت أفجّر طاقتي الزائدة بتمارين رياضية، وتمارين تأمّل، وتعلّمت كيف أكون صبوراً، وكيف أمرّن دماغي على السيطرة على طاقتي وبرمجتها لتخدمني في عملي، وتساعدني على زيادة انتاجيتي بدلاً من تضييعها في أحلام وأفكار وتصرفات غير مجدية". 

حال داني عبد المسيح هي حال الكثيرين اليوم، فمرض الـADHD شاع ذكره في الفترة الأخيرة، وكثرت حملات التوعية حول أعراضه وخطورته، إذ امتلأت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بمنشورات لأطبّاء ومتخصصين نفسانيين ينشرون معلومات عن هذا المرض ويلفتون نظر الأهل إلى مراقبة أطفالهم، لكونه يصيب الأفراد بعمر صغير ويرافقهم حتى الكبر. 



اضطراب يبدأ من الصغر 


ولفهم هذا المرض أكثر والغوص على أسبابه وسبل علاجه تواصل "الصفا نيوز" مع الطبيب النفسي المتخصص بعلاج الأطفال، د. أنطوان شرتوني الذي شرح في حديث خاص أنّ "الـADHD هو ملخّص لـ Attention-Deficit / Hyperactivity Disorder أي اضطراب قصور الانتباه وفرط الحركة، وهو يظهر غالباً عند الأطفال ويستمرّ معهم، إذ نلحظ أشخاصاً كباراً في السنّ يعانون من هذه الأعراض. فزيادة الحركة وعدم القدرة على البقاء في مكان واحد مع الحاجة الملحّة للتنقّل وتغيير الوضعية تسبب بطبيعة الحال مشكلة في الانتباه، إذ يعجز هؤلاء الأشخاص عن التركيز كباقي الأشخاص الذين هم في مثل عمرهم". 

والـADHD، بحسب الشرتوني، يظهر عند الأطفال في عمر صغير جداً، إذ لا يثبت في حضن أمه، ويتحرّك كثيراً، وفي المدرسة نلاحظ أنّه لا يجلس في مقعده على الإطلاق، لا يركّز، فوضوي، يرشق الأشياء ويوقعها، يحتاج إلى انتباه طوال الوقت، لا يستطيع إنهاء واجباته المطلوبة منه في الصف كباقي الطلاب، وهذا ما يؤثّر سلباً في أدائه المدرسي ويجعل علاماته تتراجع". 

وعن أسباب ذلك، لفت إلى أنّ "معظم الاضطرابات السلوكية ليس لها أسباب واحدة، فلا وجود لقاعدة تشرح المسألة، ولكن من المتعارف عليه أنّ هناك بعض الأسباب التي تجعل الولد كثير الحركة كوجود عدد كبير من الألعاب حوله، أو وجوده في مكان زاخر بالصراخ فضلاً عن مشاهدته لتصرّفات عدائية". 

وعن سبب انتشاره بكثرة يقول "هناك أعداد هائلة لأشخاص مصابين بالـADHD إلّا أنّ عدم ظهور هذه الأعداد من قبل قد يعود إلى رفض الأطفال لتشخيص دقيق وعدم انتشار هذه الثقافة". 

وعن آثار هذا الاضطراب على الولد، شدّد شرتوني على أنّ "الآثار كبيرة ووخيمة، وهي تعذّب الولد، الذي لا يعرف ما مشكلته وما سبب عدم قدرته على التركيز وحركته المفرطة، والآثار تكون أصعب على كبر، إذ لا يتوقّف الشخص عن الكلام، ولا يعطي مجالاً للآخرين للتحدّث، ويصبح عاجزاً عن فهم نفسه، وهو ما قد يسبّب نفور البعض منه، بالإضافة إلى مشكلات في بناء علاقات طبيعية وصحية". 


التشخيص الباكر ضروري 


أمّا عن الحلول فيؤكّد شرتوني أنّ "الحلّ يبدأ بالتشخيص الطبّي للطفل، ويفضّل أن يكون هذا التشخيص في عمر مبكر، ليتمكّن من الحصول على متابعة طبية سليمة، وعلى مسار يجب اعتماده، كما أنّ بعض الأطفال قد يحتاجون إلى دواء. وإلى ذلك، بدأت بعض المدارس الغربية تلحظ هذا الاضطراب وتحاول مساعدة الأطفال على تخطيه، إذ تمّ اختراع أنواع من الدراجات الهوائية تساعد الأطفال على التنفيس عن طاقاتهم، خصوصاً أن بعض الأطفال قد يعانون من الحركة المفرطة بسبب الكبت ومنعهم من الحركة، فالولد بحاجة إلى اللعب بكميات كبيرة من الألعاب والاستماع إلى الموسيقى، وهو أمر ضروري، وهذا يحتاج إلى اللعب كلّ يوم، ولساعات طويلة، فاللعب يساعده على النمو. وقد تكون الرياضة والحركة البدنية نوعيْن من الحلول التي يمكن اللجوء إليها. ومن الضروري أن يتنبّه المدرسون إلى الأولاد الذين يعانون من هذه المشكلة، وإعطاؤهم واجبات ومهمات للقيام بها لجذب انتباههم ومساعدتهم على التركيز". 

أسباب جينية وراثية وبيئية 

في سياق متصل، تشدّد الاختصاصية في علم النفس، د. لانا قصقص في حديثها لـ"الصفا نيوز" على أنّ "الـADHD هو اضطراب وليس مرضاً، وقد يصيب الصغار والكبار، ويظهر على شكل ضعف الانتباه وزيادة النشاط والطاقة، وله عدّة أسباب منها وراثية وجينية، كما قد تكون هناك عوامل بيئية كتعرّض النساء الحوامل لسموم وضغوط وموادّ كيماوية، وهذا ما يؤثّر سلباً في الجنين". 

وأسباب انتشاره تعود، بحسب قصقص، إلى "التغييرات البيئية، التي تتعرّض لها النساء الحوامل بكثرة، من ارتفاع في نسبة التلوّث إلى الغازات السامة الناتجة من المصانع والحروب والتجارب العسكرية وغيرها، مما يؤدّي إلى زيادة هذا الإضطراب. وأعراضه تختصر في مجال التركيز والتحكّم الذاتي والنشاط البدني. وقد يسبّب للشخص نسياناً كثيراً، أو عجز عن الانتباه والتركيز، وقد يسبب صعوبة للفرد في إتمام العمل المطلوب منه، أو التلهّي بمثيرات خارجية تمنعه عن التركيز". 

أمّا تأثير هذا الاضطراب على الفرد، "فيظهر في علاقاته الاجتماعية، التي يتخلّلها الكثير من الصعوبات والمشاكل، فضلاً عن الأداء الوظيفي للشخص في العمل ومساره الأكاديمي، فإن لم يتمّ التعامل معه بشكل صحيح قد يرسب الفرد دراسياً ويعجز عن إكمال تعليمه الأكاديمي لعدم قدرته على مجاراة متطلبات المسار الأكاديمي المقصود، كما يؤثر في سلوكياته وقدرته على تحقيق أهدافه"، كما ذكرت قصقص، التي تختم بأنّ "الحل الأنسب هو وجود علاج معرفي سلوكي لهؤلاء الأشخاص، بالإضافة إلى الدواء الذي يحدده psychiatric أو طبيب الأمراض النفسية".