في حلقة أولى، نشرت السبت الماضي، تناولت في المقالة بدايات الشاعر موريس عواد، وعلاقته بالكتابة، في عيد ميلاده التعسين الذي احُتفل به في 20 شباط. تحدثت عنه شاعرًا وناثرًا وباحثًا، وتوقفت عند موريس مسرحيًّا... وأكمل.

سألته، في حديثي الطويل معه الذي نشره في كتابه "خلّو النار والعا": كيف لشاعر أن "يتورَّط" في المسرح؟ كان يجيب: "لم أتورط. الشعر لا يتسع لكل شيء. الشعر شكل مضغوط، حيث يوضع الكثير في القليل. الشعر نقطة عطر لا يمكن أن تحمِّلها أكثر مما هي. هي نقطة تختصر مئة زر ورد".

سألته ذات مرة، مذ راح ينكب على ترجمة الكتاب المقدس ورؤيا يوحنا وأعمال الرسل إلى اللبنانية: أتصلي؟ أجاب: "لا أصلي. قهري صلاة، ضياعي، غربتي، شرودي في هذا العالم. غربتي عني، عن أهلي وضيعتي، الصراع بيني وبين نفسي، بين أمسي ويومي، بين حاضري والموت. أعدُّ كل هذا صلاة".

كأني به، في "كفرغربي"، ضيعته المتخيلة، كان يريد الهرب. إلى أين؟ فيجيب: "أهرب إلى الأبدي الذي لا ينتهي. من الزمنية إلى الأبدية. الزمنية لم تعطني قدر ما أضَعت. قد تكون الزمنية والأبدية موجودتين الواحدة منهما في الأخرى. ولكن أحسني هاربًا إلى "الما بينتهي"، وأتمنى ألا أكون موهومًا، فأجد ما يملأني ولا أعود محتاجًا إلى شيء".

لم يكتف بترجمة المقدس. سبق ذلك لبننته كتاب "الأمير الزغير" لأنطوان دو سانت إيكزوبري، وله في خياره هذا تبرير ذاتي. يقول: "هو كتاب أحبه. أنا أعيش حوارًا داخليًّا. أحب الحوار في حياتي. ثمة صراع. ثمة واحد ضدي، كتبت عنه في قصة حياتي. موريس الدَّير الذي كاد "يَتَجَزْوَتُ" (أي كاد ينتمي إلى الرهبانية اليسوعية)، وموريس اللذة الذي يريد أن يقيم علاقة بامرأة أوته مطلع شبابه. الأول يرى في ذلك خطية. وهذا الصراع مستمر في داخلي. وما زلت متأثرًا بمفهوم الخطية".

وما بالك بالنفس الملحمي غير النرجسي.

شاء موريس عواد أن يختصر نفسه باسم أو خط، فكان كتاب "الموريسيادا"، الحركة الأولى من "مِلحمة لبنانية شعرية"، كما عرَّف به. وكانت أيضًا دواوين من المناخ الملحمي "آخ"، "رجال بوجّ الريح"، "وينك تعا"، "ألوان مش ع بعضا"، "حفّ ع الإيّام». وما لم يتسع له الشعر، حمل ريشته اللاذعة الساخرة، وضمنه "نقاقيط عرق ع الورق"، و"موريسيّات"، وكتبًا أخرى لمح إلى عناوين لها أذكر اثنين منها "أوطى من المماسح" و"الصِّباط".

ترجمت أعمال له إلى الفرنسية والبولونية ورشح إلى جائزة نوبل للآداب، على أن إرثه الشعري والنثري طاول في همومه وقلقه الإنسانية جمعاء، وحاكى القيم الإنسانية "التي بتراجعها، راح الشعر يتقهقر"، فـ"الشعر ملح الشعب". تبقى ثلاث إضاءات، على الشاعر "الغريب" الذي رحل عن 84 عامًا. قد يكون أول من كتب أناشيد وطنية "يمينية" (إذا صح التعبير)، في مقابل موجة الأغاني اليسارية التي سادت منذ العام 1970.

وله في هذا المجال مجموعة أغنيات أحيا بها حزب الكتائب "مهرجان العنفوان" في ملعب برج حمود عام 1980، وكانت موجهة إلى الشيخ بيار الجميل، وراح آخرون في ما بعد يستخدمونها لقادة آخرين، وقد وضع ألحانها جميعًا الياس الرحباني: "يا موسع الساحات"، "من هاك الملعب ما نسينا"، "حمرا ومكتوبي بالنار"، "ع الصخر منحفر كتايب"... وله أغنية في بداية عهد الرئيس أمين الجميل "يا صديقي مبارح بالزمان المالح"، اشتهرت بداية "حرب الجبل" في أيلول (سبتمبر) 1983.

ثم إنه تميز بشعر الأغنيات، وشكَّل مع وليد غلمية ثنائيًّا أنتج روائع لبنانية، منها لصباح "شو بدِّي أعمل قلي"، و"درجي دوسا دوبارا"، ولجوزف عازار "قالو انطوى سيف البطل"، "صرتو ع العالي صرتو ونسيتو الناس"، "لو أنا زهرا"، و"عرشك مرمر ما بيتكسَّر" (التي "تبناها" العاهل الأردني الراحل الملك حسين نشيدًا له)، ولسمير يزبك "وينك يا خيَّال نزال" و"لملم قش اليابس كلو"، فضلًا عن أغانٍ أخرى لصباح "شفتو بالقناطر" ولهدى حداد "بيرقنا ع الجبل" (من ألحان الياس رحباني)...

تبقى اللغة والحرف... في أدبه. وهو إذ لم يعتمد في نتاجه حرف سعيد عقل، حافظ على الحرف العربي، لكنه راح يعمل فيه "تطويرًا"، بما يجعل كل حرف يُكتب يُلفظ، ليس إلَّا، فتخلى مثلًا عن القاف واستبدل به الهمزة على كرسي الياء، وألغى أل التعريف لمصلحة الـ "ل" وحدها. حتى صعب على البعض قراءته. لكنه كما يقول هو: "الأدب يكتب بأي لغة وبأي حرف ولو كان روادهما قلة، ويكون أدبًا عالميًّا يصدر تحفًا".

موريس عواد الذي رحل وفي قلبه غُصص كثيرة، خصوصًا على "الشعب الذي يدخِّن مارلبورو ويفكر تاطلي"، أو على من يعتمر "البيروك"، فيخلع مساء حذاءين "من فوق ومن تحت"، أو على "سلامة" الذي كان يدعو الجميع أن يحلوا عنه، فلا يجعلون كل شيء يمر عليه (مرَّت على سلامة)... موريس هذا الطريف الساخر كان "مريض حكي"، ينتفض إذا زقزق عصفور وهو يتلو شعرًا أو يحاضر. حين يكتب، فحسب، لا تفارق أذنه الموسيقى الكلاسيكية وكان عاشقًا بيتهوفن وموزار وباخ.

رحل وما زالت في جعبته أعمال كثيرة، سيصدرها نجلاه لاحقًا، عن المؤسسة التي حملت اسمه وأنشآها، وقد أصدرت في ذكرى وفاته  في 10 كانون الأول الماضي، كتابه "تلاتي وسبعين صباط وكحفة نعامي"، فضلًا عن منح "جائزة موريس عواد" السنوية عن ديوان شعر، يصدره من لم يبلغ الخامسة والثلاثين تشجيعًا. وما زال صدى عبارته يتردد في أذني "في رأسي أفكار كثيرة، أعيد صياغتها مرات ومرات، ويا إيدي لحقي ع دماغي". "بوسي بوستين تلاتي" أكررها كما عام 2018، لروح موريس عواد الذي حمل أوراقه ورحل، وهو يردد "القمح قليل. الهموم صغيرة، والشعراء شهود زور، خافوا من الفقر. من يخشَ الفقر لا يمكنْ أن يكون شاعرًا كبيرًا. الفقر لا يخيف".