أن يحيا شاعر مفكّر مثقّف مربّ خمسة وسبعين عامًا، فيملأ محيطه القريب والأبعد الأبعد بحضوره، وأن يغيبَ ليعود بعد خمسة وثلاثين عامًا على رحيله، أميرًا على صهوة الوفاء لإرثه الغني، فهذا هو شاعر الكورة الخضراء عبدالله إيليا شحادة.

ولد شحادة في كوسبا الكورانية عام 1910، ورحل عام 1985.

شغِف باللغة العربية وآدابها وتخصَّص فيها، في جامعة القديس يوسف، إلى أن حاز شهادة دكتوراه من جامعة سانت أندروز الكنسيّة المسكونيّة في بريطانيا. وخلّف آثارًا شعرية ونثرية كثيرة، وتتلمذ عليه، خصوصًا في شمال لبنان من أصبحوا لاحقًا كبارًا في الأدب. تزوج في سن الثانية والستين، من إميلي العيتاني، ولهما أربع فلذات، بينها ميراي التي أخذت على نفسها أن تعيد أباها إلى الحياة بعد خمسة وثلاثين عامًا على رحيله.

جمعت ما كان نشر، وهو قليل، إلى ما ترك من مخطوطات ومشاريع كتب، وهو كثير كثير بالاشتراك مع المحققة السيدة ابتسام غنيمة، فكانت ستة مجلدات زاخرة بالذوق والجمال والوطنية والمعرفة والوعي والعلم والخلق والجرأة.

الشاعر الراحل عبدالله شحادة ومجموعته الكاملة

عمل شاق، لم تكتف ميراي شحادة حداد به، بل أنشأت، ومن جيبها الخاص، ومن مردود عملها في الهندسة، منتدى على اسم والدها، وشبهَ دار نشر، تصدر من خلالها كتبًا لأدباء معروفين، أو تشجع مواهب فاسحة أمامهم في الدرب الطويل.

الحضور الحاشد خلال احتفال التوقيع

لذا أصبح هذا الشاعر الغائب الحاضر مادة دسمة لدراسات ولقاءات تدور عليه، وإن بعد غياب. وآخر الدراسات ما صدر للأكاديمية الشاعرة الدكتورة يسرى البيطار "القيم الإنسانية في شعر عبدالله شحادة"، عن "منتدى شاعر الكورة الخضراء"، الذي أقيم له، الجمعة 9 شباط 2024، احتفال توقيع في ثانوية البترون الرسمية، حيث تولى الرَّاحل شحادة إدارتها، سنوات. فاعتمدت البيطار قراءة موضوعاتية لديواني الراحل "النشوة الصَّرعى"، و"القوافي الضائعة".

المنتدون في احتفال التوقيع في البترون

تميزت صاحبةُ "منازل العشق"، في قراءتها، بأسلوب جذَّاب، مختصر مباشر. فلا مطولاتَ معلَّبة، ولا تبريراتَ أو مسوِّغات. دخلت من بيت الشِّعر الكثيف المعنى لتكشِفَ المعاني جميعًا، تعزِّز بها قِيميَّة عبدالله شحادة. وتجاوزت تلك الغاية إلى دورٍ مغاير للشِّعر، ووظيفةٍ له في منزلة الرِّسالة. شاءت الشِّعر حارسَ قيم، وما القيمُ سوى الجمال... وآه لو يحكمُ الجمالُ العالم.

انطلقت صاحبة "عطر من الشوق"، الشاعرة البيطار، من البيت الواحد لترسم مسارًا يجمع في نهايته، الَّتي لا نهايةَ لها، منظومةَ قيمٍ تُفتقَد، ولا بد من عودتها لتَسود، وإلا أَسَرَنا نظامُ التَّفاهةِ القائم، بحسب ألان دونو... فيتحكَّمُ بنا أشباهُ مثقفين، أشباهُ مواهب، أشباهُ قامات، انفسح لهم الهواء، فملأوه تلوثًا فكريًّا واجتماعيًّا وأمراضًا وعُقدًا، تقضي على الأخلاق والعائلة والجمال.

الشاعرة الدكتورة يسرى البيطار

هل يعرفُ هؤلاء التَّافهون أنَّ سقف الحرية ما هو إلَّا الحقيقة، وأنَّ قول السَّيِّد المسيح "تعرفون الحقَّ والحقُّ يحرِّركم"، لا تطويه دُرجةٌ أو "تراند" على وسائل التَّواصل؟ قوله ككنيسته أبواب الجحيم لن تقوى عليها... فليعتبروا.

وكما كادت من المحبة تسقط، قيِّضَ للكفيفانيَّة (كفيفان مسقط الشاعرة البيطار)، أن تقبِض على مفاتيح مشروع عبدالله شحادة الوطنيِّ، وقوامه أربعُ قيم جوهريَّة: القيمة الأولى، أنْ زمنُ الإقطاع ولَّى، والثَّورة عليه والوَحدة بين أبناء الوطن على أثرها، من فضائل قيام الدَّولة والمجتمع. القيمة الثَّانية أن الحريةُ لأقلام الشُّعراء. القيمة الثَّالثة أنِ الفكرُ أمضى من السَّيف، كأنِّي بعبدالله شحادة يردِّد مع نابوليون "الصِّراع في الأرض بين السَّيف والكلمة، لكنَّ الغلبة هي دائمًا للكلمة". أمَّا القيمة الرَّابعة فالمساواة بين أبناء الوطن، حقوقًا وواجباتٍ، ذكورًا وإناثا.

كلُّ هذا سبرته ابنة الأدب والقانون، بسلاسة مطلقة، وبعمق واعٍ، وبحرْفيَّة أكاديميَّة، جعلتني في جلسة واحدة، أنهل من الكتابِ جميعَه. وحسبي أنَّها سارت على درب المفكِّر البريطانيِّ جون كونراد، في إحياء قيميَّة عبدالله شحادة، وهو القائل إنَّ "على حامل الرِّسالة ألَّا يتعب أو يهدأ، قبل أن يسلِّم الرَّسالة".

غاب عبدالله شحادة، منذ خمسة وثلاثين، لكنَّ سلَّم قيمه، أي رسالتَه الَّتي لم يسلِّمها يدًا بيد، أُحيِيَ وهو في القبر، فأصبح سلَّمًا لا يَخْفى، قُل مَدينَةً عَلى جَبَل، وسِراجًا موقَدًا عَلى منارَة، فلنجعلْه يُضِيءُ لِجَميعِ الَّذينَ في البَيْت. كيف؟ بفضيلة الوفاء الَّذي يعبر حاجز الموت، كما كان عبدالله شحادة يقول، وبالمنتدى الذي أسَّسته كريمتُه المهندسة الأديبة ميراي، وقد انتُخبت أخيرًا نائبة للأمين العام لاتحاد الكتاب اللبنانيين، على اسمه، فجمعت إرثه، قصاصةً قصاصة، وبدراسة الدُّكتورة يسرى المملوءةِ سلالُها جنًى وخيورًا وكنوزا.

ولقيمة الوفاء، العابرِ حاجزَ الموت، أفرعٌ ثلاثة: العائلة، والحبُّ، والصَّداقة. وكان تبادلُ أدوار فباتَ الأبُ ابْنًا، والابْنُ أبًا، كما عاش عبدالله شحادة، وما زال له في الصَّرحِ البترونيِّ حضورُ القامات العاليات.

والشَّاهدة على كلامي جميعِه كبيرة الشَّاعرات، يُسرانا المحفوفةُ بالقوافي، المتَّضعة بعطر الوفاء:

مَنْ يُقِمْ لِلْمَوْتِ، فِي الْأَيَّامِ، ذِكْرَى

يَشْقَ، حَسْبُ الدَّمْعِ قَدْ ضَيَّعَ مَجْرَى

دَعْ حُضُورًا فِي غِيَابٍ لَا يُبَالِي

أَانْتَهَى الْعُمْرُ أَمِ اخْضَوْضَرْتَ عُمْرَا

وَاجْعَلِ الذِّكْرَى وَفَاءً بَعْدَ مَوْتٍ

دَائِمًا... إِنَّ بُعَيْدَ الْعُسْرِ يُسْرَا.

مباركة الدُّكتورة يسرى للكتاب. وها زيتونة جديدة مباركة تنبت في حديقة عبدالله شحادة، طاب زيتُه وفيؤه.