شكّل "مشروع القانون المتعّلق بُمعالجة أوضاع المصارف في لبنان وإعادة تنظيمها"، من الناحية التقنية، امتداداً للاتفاق المبدئي الذي وقّعه لبنان مع صندوق النقد الدولي في نيسان 2022. أمّا سياسياً فمثّل المشروع استمرار خشية الحكومة من قول الأمور بأسمائها، ومصارحة الرّأي العام بحقيقة الأمور. وهو ما دفعها عند إعداد هذا المشروع إلى الاختصار في مسألتين جوهريتين.

لم يفرد مشروع الحكومة لإعادة الانتظام المالي وهيكلة المصارف، إلّا صفحة واحدة من أصل ستّين، لإنشاء صندوق استرداد الودائع، ومعالجة وضع مصرف لبنان. وهو ما يؤشّر إلى أمرين أساسيين:

الأول، تحييد مصرف لبنان ومن خلفه الدولة عن تحمّل الخسائر المقدّرة بنحو 80 مليار دولار. وتالياً رمي المسؤولية على كاهل المودعين ومن خلفهم المصارف.

الثاني، عدم اقتناع واضعي المشروع ضمنياً بفعالية صندوق استرداد الودائع ووضعه كـ "رفع عتب" من ضمن الخطّة.

هيكلة "المركزي"

كما سبق أنْ أُقرّ سابقاً، نصّ "مشروع القانون المتعلّق بُمعالجة أوضاع المصارف في لبنان وإعادة تنظيمها"، على إعادة رسملة مصرف لبنان بـ 2.5 مليار دولار فقط. والرسملة لن تكون نقدية، إنّما "من خلال سندات مالية و/أو أية وسيلة أخرى تُحدّد بموجب مراسيم تتخذ في مجلس الوزراء بناءً على اقتراح وزير المال. وخلافاً لأيّ نصّ آخر قانوني أو نظامي، يُطفأ العجز في رأسمال مصرف لبنان بالعملة اللبنانية بشكل تدريجي على مدى خمس سنوات من تاريخ نشر هذا القانون في الجريدة الرسمية حدّاً أقصى. وتُلغى الأعباء المؤجّلة الناتجة من تطبيق مبدأ الـ Seigniorage وشطب سائر الخسائر المؤجلة". وعليه، لم يظهر في المشروع "الدين" الذي رتّبه الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة على الدولة، وعاد الحاكم الجديد بالإنابة للاعتراف به تحت مسمّى "عمليات السوق المفتوحة". وتبلغ قيمة هذا الدين المتراكم على الدولة في هذا البند 118 ألف مليار ليرة، أي ما يوازي 7.9 مليار دولار على سعر صرف 15 ألف ليرة، انخفاضاً عن حدود 78 مليار دولار على سعر الصرف القديم. وبحسب الخبير المصرفي رئيس مجلس إدارة I&C Bank، جان رياشي، فإنّ "النقاش بشأن هذا الدين تحوّل إلى ما يشبه الجدل البيزنطي. والحقيقة هي أنّ سلامة أضافه تخفيفاً لتقدير خسارته، رامياً المشكلة على كاهل الدولة".

وفي جميع الأحوال فإنّ "الأموال غير موجودة، ومصرف لبنان عاجز عن تسديدها"، برأي رياشي. "والمشروع أساساً يعترف بفجوة تتجاوز 70 مليار دولار. ولم يعد المهم إذا ما سُمّيت خسارة أو ديناً أو أيّة تسمية أخرى. ومن سيتحمّل عبء الدين هم المودعون والمصرفيون. ومن ثمّ الدولة من خلال صندوق استرداد الودائع الذي ما زال يحتاج إلى التوضيح".

"الصندوق": بيع المودعين "سمكاً في البحر"

إن حصّة الدولة من تحمّل الخسائر ستكون إذاً من خلال صندوق استرداد الودائع الذي اصطُلح على تسميته "الصندوق". بموجب مشروع القانون يُنشأ صندوق، غايته: "المساهمة في تأمين استرداد رصيد الودائع المؤهّلة أو غير المؤهّلة". أي الودائع التي تزيد قيمتها عن 500 ألف دولار. وذلك من خلال إعطاء المودعين مقابل ودائعهم سندات مالية يقدّمها مصرف لبنان والمصارف اللبنانية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة مقابل ودائع بالعملات الأجنبية. وينصّ الصندوق على تخصيص الدولة بعض الإيرادات المستقبلية لمصلحته، إذا توفّرت الشروط التالية:

- تجاوز هذه الإيرادات معايير محدّدة مقارنة بدول مشابهة.

- وصول الدين العام إلى أقلّ من المستوى المستهدف.

- المحافظة على النفقات الاجتماعية وعلى إمكانية تمويل أيّ عجز في الموازنة من غير مصرف لبنان.

- إتمام برنامج الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي بنجاح.

القسم الأكبر من الودائع لن يعود، وما سيُسترجع لا يشكّل أكثر من 20 في المئة في غضون مدّة تراوح بين 15و30 سنة.

اللافت أنّ معدّ القانون لم يكلّف نفسه عناء تحديد القيم أو النّسب المستهدفة، والتي تبدأ بعدها مشاركة الدولة في تمويل الصندوق. فلم تُحدّد الإيرادات الواجب تحقيقها قبل البدء بتحويل جزء منها إلى الصندوق. والأهمّ عدم مقارنتها بمتغيّر واضح وصريح كحجم الدين أو الناتج المحلّي. كما لم يُحدّد المستوى المستهدف من الدين العام، فهل هو 100 في المئة من الناتج المحلّي أم 80 في المئة أم أقلّ. ولعلّ الأخطر هو ربط تمويل الصندوق بإتمام برنامج الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي. هي عبارة مطّاطة يمكن شدّها وتقليصها حسب ما تشاء السلطة. وكلّ هذه العوامل تجعل من فكرة الصندوق كمن يبيع السمك في البحر"، بحسب الناشطة في رابطة المودعين المحامية دينا أبو زور. وهو من هذه الناحية لا يختلف عن الصناديق العديدة التي أنشئت أخيراً والتي سرعان ما أثبتت فشلها. ويكفي أن نذكر صندوق التعويض على المستأجرين القدامى لنستدلّ على عدم وجود أيّ أساس جدّي للتمويل". فالدولة أصلاً واقعة تحت عجز مالي هائل. وهي تتهرّب من دفع كلّ الديون المترتبة عليها سواء كان لحملة السندات بالعملات الأجنبية والنفقات الاستثمارية والمشاريع الضرورية وفواتير شراء الفيول ومستحقّات الضمان الاجتماعي وحقوق الموظفين. وهي تموّل الخطط الاجتماعية بالقروض الدولية وقد تراكمت في غضون 4 أعوام قروض تتجاوز 700 مليون دولار من أجل المساعدات الاجتماعية ودعم القمح وبعض الأمور الضرورية. وجزء كبير من السكّان يعيش من "كرتونة" برنامج الغذاء العالمي في حين تموّل اليونيسف التعليم وتؤمن المفوضية العليا للاجئين معيشة النازحين السوريين. فكيف لمثل هذه الدولة التمكّن من تغطية جزء من الخسائر؟ "الأمر شبه مستحيل"، من وجهة نظر أبو زور. وسيكون هذا الصندوق أحد الصناديق العديدة التي تطرح. وقد تجاهل في تكوينه ما سبق وطرحناه كرابطة مودعين لجهة تمويله من خلال مساهمات المصارف والـ dormant account وأموال الفساد واستعادة الأموال المهرّبة والعديد من الطرائق التي يمكن أن تشكّل مصدراً مهماً لتمويله بعيداً عن الطريقة المبهمة المقرّة في المشروع.

الطريقة التي مُرّر بها مشروع إعادة هيكلة المركزي وإنشاء صندوق استرداد الودائع في خطّة الحكومة شكّلا ما يشبه "الزلّة الفرويدية". فهما يكشفان عن غير قصد موقف غير واع، يمكن أن نستنتج منهما وجود دوافع أو نيات مقيّدة. وهذه النيات هي أنّ القسم الأكبر من الودائع لن يعود، وما سيُسترجع لا يشكّل أكثر من 20 في المئة في غضون مدّة تراوح بين 15و30 سنة. هذا إن بدأ تطبيق الخطّة قريباً.