طريق بعبدا تمرّ بغزّة. مسألة فرضتها التطوّرات الإقليمية الأخيرة رغم أنّها كانت قائمة حتّى قبل أن يحصل طوفان الأقصى، وقبل أن تشنّ إسرائيل حربها على القطاع، وقبل مشاغلة حزب الله لها عند الحدود اللبنانية الجنوبية. فقبل حصول هذا كلّه كان حزب الله يقول برئيس تأمن له المقاومة. وها هي المقاومة، اليوم، تختبر حرباً بشكل أو بآخر، فهل يمكن أن ترضى برئيس تخاف أن يطعنها في الظهر؟

وعلى المقلب الآخر، هناك من يسدّد الضربات إلى حماس، وهناك من يدعمه ومن يتغاضى عنه، ولكنّ همّهم جميعاً هو حزب الله في لبنان وقطع الطريق عليه للحدّ من نفوذه وحضوره اللذين قد يجد ترجمة لهما في مشروع رئاسة الجمهورية.

إذاً أيّاً كان وجه المنطقة بعد حرب غزّة، فإنه سينعكس على ما يجري عند الجانب اللبناني من الحدود بشكل مؤكّد. رئيس للبنان من المفترض أن يوقّع على تفاهمات ومعاهدات دولية قد تتعلّق بالحدود البرّية ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا أو بالنفط والغاز أو بالقرار 1701. وإذا كان توقيع الرئيس على المعاهدات الدولية مسألة لا يمكن تخطّيها. كذلك لا يمكن تجاهل المسائل الداخلية الملحّة، وفي أكثر من مجال، وليس أقلّها ملء الشواغر كتعيين بديل من حاكم مصرف لبنان ومدير عام أصيل للأمن العام.

ولا بأس من الاستدلال على هذا الواقع من خلال رصد انخراط الدول الأعضاء في اللجنة الخماسية لبحث الوضع الرئاسي في لبنان، بما يحصل في شأن قطاع غزة من محادثات. قطر على خطّ التواصل الدائم مع حماس ومع الجانب الأميركي للبحث في مخرج من الحرب الإسرائيلية التي حصدت أرواح نحو 30 ألف فلسطيني، معظمهم من الأطفال والنساء، إضافة إلى عشرات آلاف الجرحى ومئات آلاف النازحين، وأسفرت عن دمار هائل لحق بالمباني السكنية والمستشفيات والمؤسسات التعليمية والحكومية وبالبنى التحتية.

انتخابات رئاسية للبنان على إيقاع تسوية إقليمية ترسم خريطتها لجنة خماسية دولية لا تغيّب لاعباً سادساً هو إيران.

ويكتسب الحديث عن أضرار الحرب أهمّية خاصة مع بوادر التوصّل إلى وقف لإطلاق النار مع ما يعنيه هذا الأمر على صعيد عمليات إعادة الإعمار وأفقها. ومن زاوية غزة ومساعي وقف إطلاق النار، تتحرّك الدوحة وواشنطن باتجاه لبنان أيضاً، وإن كان التركيز، اليوم، هو على الحؤول دون اتّساع رقعة الحرب والمواجهات. إلّا أنّ الطرفين يعلمان أنّ موقع رئاسة الجمهورية على تماس مع كلّ ما يجري، ومصيره مرتبط بشكل أو بآخر بنتائج حرب غزّة.

وكما الدوحة وواشنطن كذلك القاهرة التي تجد نفسها معنية بشأن الفلسطيني ولا سيّما بمسألة غزة الواقعة عند حدودها، وما تخشى منه لجهة توطين اللاجئين الفلسطينيين في سيناء، كما تبحث عن الرابط بين هذه الخشية وموضوع الرئاسة في بيروت ورجحان كفة حزب الله في هذا الإطار، وانعكاس المسألة على حضور حماس وتأثيرها، رغم ما لحق بها من خسائر إذا ما تم تصوير عجز تل أبيب عن القضاء عليها انتصارًا لمنطق المقاومة، وكيفية استثمار هذه المستجدّات بمواجهة قطار تطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية. ومسألة التطبيع التي اشترطت المملكة العربية السعودية إقرانها بوقف لإطلاق النار، وبالاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلّة على حدود العام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، تفتح المجال أمام الرياض لتحرّك مباشر على خط الرئاسة اللبنانية، مع توقّعات بموقف تتخذه الرياض عشية إحياء ذكرى اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط، في ظلّ ما يحكى عن عودة "سياسية" مرتقبة أو محتملة للرئيس سعد الحريري إلى بيروت.

فأين ستقف الرياض من المشهد اللبناني؟ هذا ما تحاول الجهات اللبنانية على اختلافها تلمّسه أو رصده في قابل الأيام. أمّا فرنسا فرغم كلّ ما يشاع فهي لا تملك سوى مبادرتها الأولى التي تنصّ على التوافق على رئاسة الجمهورية لسليمان فرنجية مقابل رئاسة الحكومة للفريق الآخر في لبنان. ويرجّح المتابعون، في ضوء ما قد تنتهي إليه حرب غزة من تسويات، أن يكون لا بد من مراضاة الحزب في لبنان للانتقال إلى مرحلة من التهدئة، قد تبّشر باستقرار طويل الأمد يتيح استئناف التنقيب عن الغاز والنفط في المياه الإقليمية اللبنانية من دون موانع.

صحيح أن واشنطن ستكون منهمكة بالاستعداد لانتخاباتها الرئاسية، وصحيح أنّ بعض الدول الأعضاء في اللجنة الخماسية ستكون منخرطة في الشأن الفلسطيني من إعادة الإعمار إلى مستقبل الدولة وسلطتها. ولكن هذا كله لا يمكن إنجازه أو حتّى الشروع بما يحقّقه من دون الأخذ في الاعتبار تأثير الشأن اللبناني عليه، ومسألة الحدود الجنوبية ودور حزب الله المستقبلي. وهو ما يلمّح إليه البعض، عن دور إيراني كان له الفضل في منع تدهور المواجهات وتحوّلها حربًا أوسع لو أن طهران ردّت على تل أبيب بالمثل.

انتخابات رئاسية للبنان على إيقاع تسوية إقليمية ترسم خريطتها لجنة خماسية دولية لا تغيّب لاعباً سادساً هو إيران. فهل يكون الـ 30 ألف ضحية وعشرات آلاف الجرحى والدمار الهائل والتهجير مقدّمة لحلّ مستدام؟ هل تساوي أرواح من رحلوا هذا المشروع الموعود للمنطقة؟ وهل من يضمن فعلاً أن تلتزم إسرائيل ما تعهّدته إن وافقت على ما يُطرح من شروط عربية في هذا الإطار؟ وإذا لم يحقق ما يصبو إليه كل طرف معني بالحرب أو يملك القدرة على عرقلة قطار السلام، فهل يمكن الرهان على تسوية مستدامة؟

كثيرة هي الأسئلة والسيناريوهات المحتملة أيضاً، ولكنّ الأكيد أنَّ وقفاً لإطلاق النار يُعمل عليه وتسوية كبرى قيد التحضير. ولبنانياً، لا بد من التوافق على انتخابات رئاسية وتشكيل حكومة جديدة للخروج من الانهيار والواقع المأزوم، إذ لم تعد المسألة بيد الفرقاء اللبنانيين بل هي قضية مدوّلة.