يثير استقرار سعر صرف العملة اللبنانية مقابل الدولار الكثير من الأسئلة، وأوّلها: هل يدوم ثبات الليرة طويلاً أم أنّ ما نشهده هو مجرّد استقرار مرحلي؟ وإذا كان "الشيءُ بالشيءِ يُذكر"، فأين أصبحت توقّعات "معهد التمويل الدولي" بأن يتجاوز سعر الصرف المئة وعشرة آلاف ليرة في نهاية العام الماضي. وترجيحه أن يصل إلى مئتين وخمسين ألف ليرة في نهاية العام الحالي؟

بالمبدأ، لم يتغيّر شيء على صعيد المؤشّرات الاقتصادية والسياسية التي بُنيت عليها التحليلات. فالتضخّم ما زال من ثلاثة أرقام (230 في المئة)، والناتج الاِسْمي الرسمي في تدهور دراماتيكي (18.5 مليار دولار)، والعجز يتفاقم في الميزان التجاري (16 مليار دولار)، والشلل يتحكم بمفاصل القطاع العام وسط إهمال متعمّد لكلّ الإصلاحات البنيوية. أمّا سياسياً فما زال لبنان من دون رئيس للجمهورية، ويفتقد حكومة فاعلة، ونوّابه يصوّتون فوضوياً على قوانين يجهلون خلفياتها وتداعياتها. أمّا نقدياً فقد حرمت الإصلاحات الهيكلية في المصارف التجارية وإقرار التشريعات الضرورية وتوحيد سعر الصرف، المصرف المركزي من استعمال "الفائدة" كأداة فعّالة للتدخّل في السوق والسيطرة على التضخّم. وذلك على غرار ما يجري في مختلف دول العالم.

سحر الانكماش الأسود!

ثبات سعر الصرف وسط كلّ هذه المتغيّرات ليس سحراً أسود، إنّما نتيجة طبيعية لوقوعه وسط تقاطع الإجراءات الانكماشية للسلطات الثلاث النقدية والمالية والاقتصادية.

على الصعيد النقدي، أضاف مصرف لبنان إلى امتناعه تمويل الدولة بالليرة والدولار، التعميم 166. إذ خفّض قيمة السحوبات النقدية لفئة من المودعين من 1600 دولار شهرياً، تسحب بالليرة على أساس 15 الفاً، إلى 150 دولاراً تدفع نقداً. وبغضّ النظر عن الإيجابية الكبيرة للتعميم المتمثلة بوقف الاقتطاع "HAIRCUT" من الحسابات بنسبة 83 في المئة، فإنّ نتائجه الانكماشية ستعزّز ثبات سعر الصرف للأسباب التالية:

• سيضخّ سنوياً حوالى 333 مليون دولار في السوق (تقدّر الكلفة بحسب مصادر مصرفية بـ 5 مليارات دولار على 15 عاماً).

• يحوّل المستفيدين إلى باعة للدولار في السوق بعدما كانوا مشترين.

• يخفّض القدرة الاستهلاكية للمودعين بمقدار النصف. فهو يعطي 150 دولاراً تمثل 13.4 مليون ليرة بدلاً من 24 مليون ليرة بحسب التعميم 151. الأمر الذي سينعكس انخفاضاً في الطلب على السلع والخدمات. وتالياً يقلّص طلب التجار على الدولار لإعادة استيراد ما استهلك.

مالياً، تستمرّ السلطة المالية في حبس الإنفاق على كلّ المستويات، فهي:

• متوقّفة عن تحويل حوالى 6200 مليار ليرة مجمّعة في حساب الكهرباء في مصرف لبنان إلى دولار لشراء الفيول وتأمين الكهرباء.

• متخلّفة (الجهات الضامنة الرسمية) عن دفع مستحقّات المستشفيات.

• متخلّفة عن سداد نحو 5000 مليار ليرة إلى الضمان الاجتماعي.

• مدينة إلى الآن بحوالى 90 ألف مليار ليرة للدولة العراقية بدل شراء النفط.

• متوقّفة عن دفع كلّ النفقات التشغيلية للإدارات العامّة والوزارات، ولا سيما المتصلة بتقديم الخدمات الأساسية للمواطنين من صيانة معامل الكهرباء وإصلاح الأعطال ومعالجة مشاكل الطرق.

• متجاهلة تداعيات الدمار الذي يخلّفه القصف الإسرائيلي على جنوب لبنان. إذ ترجّح التقديرات تهدّم أكثر من 1000 وحدة سكنية ونزوح نحو 100 ألف مواطن واحتراق آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية.

• إقرار زيادة هائلة في نسب الرسوم والضرائب في موازنة 2024، ستعمل كـ "شفّاط" لليرات التي تدفع، وحبسها في الحساب الرقم 36 الذي يعود للدولة في مصرف لبنان.

اقتصادياً، تقدّم الحكومة "الفتات"إلى الموظّفين. وهي كانت قد خفّضت كلفة الأجور من حوالى 8 مليارات دولار سنوياً، إلى ما بين 700 مليون والمليار دولار. وآخر المحادثات تدور تتصل "برفع متوسّط الراتب الشهري لموظّفي القطاع العام إلى حدود 20 مليون ليرة"، بحسب عضو الهيئة الادارية في رابطة موظّفي الإدارة العامة ابراهيم نحّال. فأقصى ما تطرحه الحكومة هو دفع ثلاثة رواتب، إضافة إلى الرواتب السبعة المسدّدة سابقاً. ومقابل هذه القيمة الزهيدة للزيادات التي تعتبر مساعدة اجتماعية لا تدخل في صلب الراتب، سيُلزم الموظفون بالحضور 22 يوماً. وسيتحمّلون، بالإضافة إلى كلفة النقل، أعباء الرسوم الجديدة والزيادات على الضرائب التي فرضت في موازنة 2024. الأمر الذي يحوّل كلّ ما يحصلون عليه من مساعدات إلى خزينة الدولة على شكل رسوم. وتالياً ينالون أقلّ مما كانوا يحصلون عليه قبل الزيادة". ولا حلّ، برأي نحّال، إلّا إصلاح الرواتب ووضع حدّ أدنى يعرف بـ "الراتب الاجتماعي" يكفي الموظف ليعيش بكرامة، وتخفيض الرسوم والضرائب، وليس زيادتها".

الانكماش مستمر

بإزاء كلّ ما تقدّم، يبدو واضحاً المنحى التقشّفي في السياسات المالية والنقدية والاقتصادية التي تتّبعها الدولة اللبنانية عمداً. "وهو ما يتعارض مع السياسات الواجب اتّباعها للخروج من الأزمات التي أوصى بها عالم الاقتصاد جون كينز"، بحسب الباحث في الاقتصاد الاجتماعي والسياسي الدكتور طالب سعد. "إذ يفرض المنطق في أوقات الانكماش، اعتماد السياسات التوسّعية بدلاً من الانكماشية، لتحفيز الطلب على الاستهلاك. فتعمّدت السلطة في موازنة 2024 تعزيز الانكماش والحدّ من قدرة المواطنين على الإنفاق. فقلّصت خدماتها إلى الحدّ الأدنى. ولم تلحظ أيّ مبالغ مخصّصة للاستثمار والتشغيل. وجرى ترحيل كلّ قوانين البرامج إلى الأعوام اللاحقة. ورُفعت قيمة الرسوم وأُضيفت زيادات إلى الضرائب".

السياسة التقشّفية التي تتّبعها الحكومة تؤدّي إلى ثبات سعر الصرف، وزيادة واردات الدولة، وتخفيف الضغط على الموازنة وجعلها مقبولة في نظر صندوق النقد. لكنها في المقابل تضاعف خسائر الاقتصاد، لأنّها تقضي على فرص النهوض الاقتصادي.