أصبحنا أسرى هواتفنا. بهذه العبارة يمكن توصيف حالات الإدمان على الهواتف التي تصيبنا جميعاً، ولو بنسب مختلفة، إذ بتنا في علاقة مع هواتفنا أقوى من العلاقة التي تربطنا بمحيطنا. لا بل حالت هذه العلاقة في حالات كثيرة دون حفاظنا على علاقات بشرية صحّية، بعدما صُمّمت الهواتف الذكية والتطبيقات المرتبطة بها لتبقي مستخدميها في حالة ارتباط تام بها، فتعزله عن محيطه وتدخله دوامة من الإدمان المتعذر علاجه.

النوموفوبيا

ويتسبّب الانتشار الواسع لاستخدام الهواتف الذكية في حياتنا اليومية في حالة متقدّمة من الإدمان السلوكي، الّذي يطلِق عليه الأطباء النفسيون اسم "النوموفوبيا"، اختصارًا لـ"no-mobile phobia"، وهو رهاب فقدان الهاتف المحمول أو عدم القدرة على استخدامه.

وكشفت أحدث الأبحاث والتقارير العالمية التي نشرتها شركة Meltwater ووكالة We Are Social واطّلع عليها "الصفا نيوز" أنّ هناك ظواهر جديدة سلوكية بدأت تتكشّف، منها تغيّر كبير في أعداد مستخدمي الإنترنت. فبعدما تجاوز عدد سكان العالم ثمانية مليارات في 15 تشرين الثاني 2022، ووصل إلى 8.01 مليار في بداية عام 2023، وصل عدد مستخدمي الهواتف المحمولة إلى 5.44 مليار في أوائل عام 2023، أي ما يعادل 68% من إجمالي سكان العالم.

وقد زاد عدد مستخدمي الهاتف المحمول بنسبة 3% في العام 2023 عن العام 2022، وهو ما يقدّر بنحو 168 مليون مستخدم جديد. وهنالك 5.16 مليار مستخدم للإنترنت في العالم، ممّا يعني أنّ 64.4% من إجمالي سكّانه متّصلون بالشبكة العنكبوتية. وتشير البيانات إلى أنّ إجمالي مستخدمي الإنترنت عالمياً ارتفع بنسبة 9.1 في المئة في العام الماضي عن الأعوام السابقة. في حين أن هنالك 4.76 مليار مستخدم لوسائل التواصل الاجتماعي في أنحاء العالم، أي ما يقارب الـ 60% من إجمالي سكانه.

الجيل Z

ويعتمد الكثير من البشر، اليوم، لا سيّما الأجيال الأصغر سنًّا مثل الجيل Z، على الهواتف الذكية على نحو متزايد، إذ تشير أبحاث مختصّة إلى أنّ مستخدمي الهواتف الذكية باتوا يتلقّون ما نسبته 427% من الرسائل والإشعارات أكثر مما حصلوا عليه قبل عقد من الزمن.

ووفقًا للخبراء فإنّ إدمان الهواتف المحمولة يتسبّب في مشاكل صحية عقلية خطيرة، ومن المرجح أن يصبح المراهقون مدمنين على هذه الهواتف أكثر من أيّ فئة عمرية أخرى. وبحسب دراسة نُشرت في Frontiers in Psychiatry، فإنّ الشباب الذين تقلّ أعمارهم عن 20 عامًا هم الأكثر عرضة للإدمان على الهواتف المحمولة، ممّا يتسبب في مشاكل سلوكية لديهم.

ووجدت الدراسات أنّ حوالى27% من مالكي الهواتف الذكية الذين تراوح أعمارهم بين 11 و14 عامًا لا يغلقون هواتفهم على الإطلاق، حتّى أثناء النوم. تشمل عوامل الخطر للإدمان على الهواتف المحمولة: القلق، التعايش مع الاكتئاب، انخفاض احترام الذات، الانطواء على الذات، عدم ضبط النفس، فقدان السيطرة على الاندفاع.

بحسب جمعية الطب النفسي الأميركية، يعتبر استخدام الهاتف المزمن شكلًا من أشكال الإدمان تمّ تطويره أخيرًا، وعلى الرّغم من أنّه غير معترف به رسميًا كحالة للصحة العقلية، من المعترف به على أنّه إدمان سلوكي، يمكن أن يكون له تداعيات خطيرة.

ووفق مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية، هنالك ارتفاع هائل في حالات الاكتئاب والانتحار في صفوف المراهقين في السنوات الأخيرة مرتبطة بإدمان الهاتف. ومنها بين عامي 2015 و2021، إذ ارتفع معدل الانتحار بنسبة 65%، وارتفع معدل الاكتئاب الحاد بين الفتيات بنسبة 58%.

آثار نفسية

في هذا الإطار، تقول الاختصاصية النفسية الدكتورة نيكول هاني لـ"الصفا نيوز" إنّ "ثقافة التكنولوجيا انتشرت لدى جميع فئات المجتمع، وتأتي في مقدّمة هذه الثقافة الهواتف الذكية، التي لم تعد محصورة بميدان العمل، إنّما شملت ميادين عدّة بين الصغار والكبار وسيطرت على حياتنا اليومية والعملية. وقد انتشرت الهواتف النقالة بين الطلاب في المدارس، وأصبحت الوسيلة الرئيسية التي تربط الطلاب بعضهم ببعض وبأساتذتهم. أمّا في الحياة العملية فتحوّل الهاتف المحمول إلى وسيلة لتذكير الموظّفين بمواعيدهم، وواجباتهم، واجتماعاتهم، كما تستخدم الهواتف لأسباب ترفيهية كالتواصل مع الأصدقاء، والاستماع إلى الأغاني، ومشاهدة الأفلام، ومتابعة الأصدقاء والأقارب والمشاهير على وسائل التواصل الاجتماعي، والشراء أونلاين، وحتى قراءة ومتابعة آخر الأخبار والبقاء على اطلاع على آخر الأحداث".

ولاستخدام الهاتف حسناته وسيئاته، تقول هاني، "فمن إيجابيّاته تعزيز الروابط الاجتماعية مع الأصدقاء، والاستفادة من التقنيات الموجودة لاطمئنان الأهل على أولادهم أثناء خروجهم، أمّا سلبياته من الناحية النفسية والعقلية، فتظهر على شكل آلام ونوبات قلق مستمرّة، وآلام في الرقبة أو إجهاد العين، وفقدان الإحساس بالوقت، وشعور بالانسحاب من التواصل الحضوري. ويصبح الفرد المدمن على الهاتف يفضّل تمضية الوقت على هاتفه بدل تمضيته مع الأصدقاء، ويعاني من الاضطراب خاصة في حالة استخدام الهاتف قبل النوم. كما يؤدّي الإفراط في استخدام الهاتف إلى ارتفاع نسب الحوادث المرورية".

أمّا عن أساليب علاج الإدمان على الهواتف فتذكر هاني "أولًا، تحديد وقت معيّن للأصدقاء والعائلة فقط، بعيداً عن الهاتف، ووضع جدول حازم لمدة استخدام الأولاد للهاتف، وعدم ترك الولد يأخذ الهاتف لدى الذهاب إلى النوم، وعدم إعطاء الهاتف للولد كمكافأة أو لإلهائه".

أمراض صحية

يقول الدكتور جورج معوّض، وهو طبيب صحّة عامة، لـ"الصفا نيوز": "في عصر التكنولوجيا والهواتف الذكية برز العديد من الأمراض النّاتجة من الاستخدام المفرط للإلكترونيات، وعلى رأسها الهواتف الذكية، ومن أبرز الأعراض نذكر آلام الرقبة والكتف وأعلى الظهر وصداع التوتّر، وهي أعراض يسبّبها "العنق التقني" وهو نتيجة توجيه رؤوسنا إلى أسفل للنظر إلى هواتفنا. وهذه الأعراض تستمرّ فترة طويلة حتّى بعد أن يغلق المستخدم الهاتف".

ولفت معوّض إلى أنّ "أكثر الحالات شيوعاً والناتجة من استخدام الهاتف، هي إجهاد العين، إذ إنّ الشخص لا يرمش كفاية عند التحديق بشاشة الهاتف، إذ يكتفي بالرمش مرة إلى ثلاث مرات في الدقيقة مقارنة بـ 20 مرة في المعتاد، ممّا يؤدي إلى جفاف العين وأحياناً إلى ضبابية في الرؤية".

والأكثر إرهاقًا، بحسب معوض، "هو آلام العين الباهتة والصداع الناتج من إجهاد العين بسبب تركيز المرء على بقعة واحدة فترة طويلة، كما يمكن أن يؤدّي سطوع شاشة الهاتف إلى تفاقم المشكلات".

وأضاف معوّض "يعاني واحد من كلّ خمسة مستخدمين للهاتف من تشنّجات في اليد والرسغ ويعاني واحد من كلّ عشرة من إصابات إجهاد متكررة. كما تزداد مشاكل اليد والمعصم شيوعاً، لا سيما مع الاتجاه نحو أكبر الهواتف حجماً، إذ إنها تضع مزيداً من الضغط على عضلاتنا عندما نحملها".

وانتقد "حمل الكثير منا، الهاتف باليد نفسها التي يستخدمها للتمرير والنقر، وهي فكرة سيئة، لأنها تجبر عضلات الإصبع والإبهام على الإمساك والتمدد في الوقت عينه".

وعلى الرّغم من الأهمّية الكبيرة التي تكتسبها الهواتف الذكية في حياتنا فقد أصبحت تشكّل خطراً حقيقياً على صحتنا النفسية والعقلية نتيجة الإفراط باستخدامها إذ تحوّل إلى نوع من أنواع الإدمان. وهنا تأتي أهمّية أن يعي الفرد كيفية استخدام هذه الهواتف ومتى عليه أن يأخذ إجازة منها ومن عالم وسائل التواصل الاجتماعي ليتمكّن من حماية نفسه والعيش بطريقة طبيعية.