في الوقت الذي تبحث فيه الخزينة عن "فتات" الدولارات بـ "السراج والفتيلة"، تستمرّ بعض الوزارات بـ "التعتيم" على إيرادات بالملايين يمكن تحصيلها بسهولة. الناظر من بعيد إلى سلوك المسؤولين يظنّ أنّ البلد عائم على ثروة سحرية، تزداد باطراد كلّما ضيّع فرصة من فرصها، وأنفق منها من دون حساب. في حين أن تكبير الصورة يُظهر بوضوح خللاً بنيوياً في مقاربة الصفقات، وتجاوزاً فاضحاً للقوانين، وإهمالاً متعمّداً في حماية المال العام. ومن الأمثلة على ذلك صفقة "المحفظة الرقمية"- e-wallet.

خطت وزارة الاتصالات خطوة نوعية بإدخال خدمة المحفظة الرقمية - e-wallet إلى سوق الدفع اللبنانية. وهذه الخدمة عبارة عن تطبيق ألكتروني يحمّل على الأجهزة الخلوية، يحوّل إليه المشترك مبالغ مالية من حساباته المصرفية، أو يغذّيه بشكل مباشر، ويسدّد بواسطته مدفوعاته المالية. وترتبط هذه الخدمة بشركات الاتصال الخلوية التي تقدّمها بشكل مباشر. أو من الممكن تلزّيمها لطرف ثالث. وفي لبنان قرّرت "الاتصالات" في البداية اعتماد الطريقة الثانية، بواسطة التلزيم بالتراضي ومن دون إجراء مناقصة أو فتح باب المنافسة. إذ سمحت لشركة "الفا" بالتعاقد مباشرة مع شركة "سيول" بحجة أنّ الشركة هي الوحيدة القادرة على أداء هذه الخدمة. مع العلم أنّ شركة "تاتش" اتجهت إلى إعداد دفتر شروط لتلزيم تقديم الخدمة نفسها. كما تذرّعت الوزارة بعدم ترخيص مصرف لبنان لشركات الخلوي تقديم مثل هذه الخدمة.

القلق على الداتا.. وأكثر

بغضّ النظر عن وضوح القوانين اللبنانية، وآخرها "الشراء العام"، من حيث عدم جواز تنظيم الإدارة العامّة اتفاقات بالتراضي، فإنّ "تلزيم مثل هذه الخدمة لطرف ثالث من دون منافسة، يفوّت على الخزينة إيرادات بملايين الدولارات، ويحصر استفادة قطاع الاتصالات بعمولة زهيدة، ويعرّض أمن اللبنانيين السيبراني لمخاطر الكشف أو الفضح. إذ إنَّ هذه العملية تعطي الشعب اللبناني كـ "زبون واحد" للشركة مقدّمة الخدمات. فيتجمّع بحوزة الشركة المشغّلة جميع المعلومات الشخصية وغير الشخصية عن نحو مليوني لبناني. ويكفي بيع هذه الداتا التي تتضمّن الشريحة العمرية، والمهنة، ومكان السكن، وحجم الإنفاق، ونوعية الاستهلاك، والوضع المالي والاجتماعي... وغيرها الكثير من المعلومات المهمّة لشركات الإعلانات من أجل تحقيق مكاسب هائلة. هذا إن افترضنا حسن النية وعدم استخدام المعلومات لأغراض أخطر.

"المركزي" لا يعارض الترخيص

حجج وزارة الاتصالات لعدم تقديم الخدمة مباشرة من قبل "ألفا" و"تاتش" المعروفتين تقنياً ميك 1 وميك 2، هي عديدة، منها، بحسب مصادر "الاتصالات"، رفض مصرف لبنان الترخيص لشركتي الخلوي بتقديم الخدمة. ذلك أنّ التعامل بالمحافظ الرقمية يتطلّب رخصة مباشرة من مصرف لبنان كمنظّم للقطاع. وحتّى في حال موافقته تنقل مصادر الاتصالات خشيتها من "إخضاع القطاع لرقابة المركزي والتدخّل في كلّ شاردة وواردة في القطاع ممّا يؤثّر سلباً في تقديم الخدمات". وتجنّباً لكلّ ما يعوق هذه العملية المهمّة للشعب اللبناني "فضّلت أن يقوم بها طرف ثالث مرخّص ويمتلك باعاً طويلاً في الخدمات الرقمية والمعدّات اللازمة والكفاءات البشرية".

انطلاقاً من هذا الواقع أصرّت "الاتصالات" على تلزيم خدمة المحفظة الرقمية في "ألفا" إلى شركة "سيول" الحديثة الترخيص طوال الأشهر الماضية. ومع تصدّي هيئة الشراء العام للصفقة وإثارة الموضوع في الإعلام كفضيحة لتجاوز القوانين، عاد وزير الاتصالات جوني القرم ليعلن نيّة الوزارة إعداد دفتر شروط وإطلاق مناقصة على غرار ما حصل مع "تاتش" لاستقطاب العارضين. مع العلم أنّ مصادر من مصرف لبنان أكّدت انّ "المركزي لم يَرفض الترخيص لشركتي الاتصالات بتقديم الخدمة كما يدّعي البعض عن جهل أو سوء نية. بل على العكس كان المركزي مرحّباً بالطّرح وقد اقترح فريق عمله المخارج القانونية والتقنية التي تمكّن الشركتين من أداء المهمة. إلّا أنّ المعنيين في "ألفا" و"تاتش" لم يعاودا الاتصال ولا حتّى الإجابة على مقترحات المركزي، التي ركّزت على إمكانية تعديل نظام شركتي الخلوي وإنشاء شركتين رديفتين: ميك١ بريم، وميك ٢ بريم يقودهما مجلس الإدارة نفسه التابع لشركتي الخلوي. أو يُعيّن المساهمون مجلس إدارة جديداً في الشركتين. وبهذه الطريقة تتمكّن شركتا الخلوي من تقديم الخدمة وتحقيق عائد يراوح بين 3 و 5 ملايين دولار سنوياً والمحافظة على داتا اللبنانيين وحمايتها من الضياع.

لا مبرّر جدّياً وفعلياً لكلّ الحجج التي تسوقها الاتصالات لحجب الخدمة عن شركتي الخلوي

التقنيات متوفرة

أمّا في ما يخصّ الحجة الثانية المتعلّقة بعدم امتلاك الشركتين المعدّات الضرورية والكفاءات اللازمة، فتلفت مصادر معنية بقطاع الاتصالات إلى أنّ "الخدمة لا تتطلّب أكثر من وجود تطبيق application تعتمده سلفاً الشركتان لتسديد الفواتير. ولا مجال للخسارة في مثل هذا العمل الذي يعتمد على تقديم الخدمات وليس السلع". وبالنسبة إلى الكفاءات فإنّ "الشركتين تعتبران معقلاً للكفاءات العالية في البرمجة والمجال التقني. وهما كانتا قد استقطبتاها أيام العز والرواتب المرتفعة".

إذا،ً لا مبرّر جدّياً وفعلياً لكلّ الحجج التي تسوقها الاتصالات لحجب الخدمة عن شركتي الخلوي، وتلزيمها إلى عارضين اثنين، الأول يتولى "تاتش" والثاني "ألفا". ولعلّ أكثر ما يثير قلق المعنيين في متابعة هذا الملف هو تفويت فرصة تقديم خدمة سهلة ورابحة على قطاع الاتصالات، وعودة الوزارة لتفصيل دفتر شروط على قياس عارضين محدّدين. فنعود إلى النقطة صفر من الأخذ والردّ والطعن بالقرار من قبل هيئة الشراء العام وديوان المحاسبة، ولجوء "الوزارة" إلى الحكومة للتوسط، وذلك على غرار ما حصل في تلزيم خدمة الـ "ليبان بوست" سابقاً. إذ رفضت كلّ من هيئة الشراء العام وديوان المحاسبة دفتر المناقصات الثلاث التي أجرتها الوزارة نظراً لتفصيل دفتر شروط على قياس عارض واحد، ومخالفتها القوانين. ولا سيما في ما يتعلّق بالمهل، والإعلان، وعدم وجود ظرف اضطراري لإرساء المناقصة على عارض وحيد.

إن كان لا بد من تلزيم الخدمة للقطاع الخاص خلافاً لتوصية هيئة الشراء العام التي تصرّ على تولّي شركتا الخليوي حصراً تقديم هذه الخدمة مباشرة، فإنّ أقلّ الإيمان فتح القطاع على أوسع قدر من المنافسة. فيسمح لكلّ راغب في القطاع الخاص، التقدّم بطلب والحصول على ترخيص بشرط أن يكون مؤهّلاً ويستوفي الشروط. ومع توسّع المنافسة تتحسّن النوعية وتنخفض معدّلات الحسم وتتوزّع المخاطر وتتحقّق المنافع للجميع.