تنتشر ظاهرة التنمّر بكثرة في أنحاء العالم، وتشمل تحديداً الأطفال ما دون الـ 18 عاماً، وتتسبّب بتدمير حياة الآلاف منهم وتقود بعضهم إلى الانتحار. ووفقاً لأرقام منظّمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) عن العام 2023، فإنّ 130 مليون طالب يتعرّضون للتنمّر، الذي تفاقم بسبب انتشار التقنيات الرقمية. 

وتشير تقديرات اليونيسف إلى أنّ واحداً من كلّ ثلاثة طلّاب تراوح أعمارهم بين 13 و15 عاماً هو ضحية للتنمّر. أمّا في لبنان، فتعرّض ربع الأطفال للتنمر في عام 2021، بحسب الجمعية الفرنكوفونية للأمراض النفسية. 

إلى ذلك، أطلقت مؤسسة "أديان" مبادرة مشتركة مع مؤسسة "Rethink" تعتمد على تطبيق منهج مكافحة التنمّر وتحميل تطبيق "Rethink" على الهواتف الذكية، الحاصل على براءة اختراع لاقتراحه حلًّا لمسألة التنمّر عبر الإنترنت. بدأ هذا التطبيق أولًا في الولايات المتحدة الأميركية، لكنّ التجارب المدرسية في لبنان، ونسب التنمّر الكبيرة التي يتعرّض لها الأطفال، دفعتا "أديان" بالشراكة مع مؤسسة "Rethink" إلى تعديله في إشراف متخصّصين في المجال التربوي ليصبح منسجمًا مع السياق اللبناني. 

يهدف هذا المشروع إلى التثقيف الرقمي للتلاميذ والتلميذات في لبنان، ونشر الوعي في صفوفهم حول خطاب الكراهية وكيفية مواجهته، وتعزيز السلوك الإيجابي. 



عن مؤسسة "أديان" 

في هذا الإطار، لفتت مديرة وحدة التربية في مؤسسة "أديان"، ميسم رحمة، إلى أنّ "هذه المؤسسة غير حكومية تعمل على إدارة التنوع والحفاظ على التضامن والكرامة الإنسانية، تأسست في عام 2006، وفيها عدّة أقسام، أبرزها معهد المواطنة وإدارة التنوّع، ووحدة التربية التي تعنى بالبرامج المدرسية، ومنها برنامج مكافحة التنمّر. وقد بدأت فكرة مكافحة التنمّر في المدارس مع الاستعمال المتزايد لوسائل التواصل الاجتماعي عند الطلّاب، في ظلّ جائحة كورونا، عندما انتقل التدريس إلى التعليم عن بعد. وأصبح الطلّاب يتنمّرون بعضهم على بعض، بعدما فقدوا الكثير من مهاراتهم الاجتماعية، التي عادةً يتعلّمها الطلّاب في الصفوف، بالإضافة إلى تلقّنهم أصول التعامل ومخاطبة بعضهم بعضاً. ومع عودتهم إلى التعليم الحضوري كان الطلّاب قد فقدوا الكثير من الضوابط والقيم وأسس التعامل مع الآخر ومبادئ احترامه وتقبّل التنوع". 

برنامج مكافحة التنمر 

وشرحت رحمة "نزولاً على طلب المدارس، التي بمعظمها تربطنا شراكة بها ضمن برامج تربوية، طُلب من مؤسّستنا أن تخصّص برنامجاً لمكافحة التنمّر بعدما أصبح ظاهرة متفاقمة في المدارس، والتنمّر لم يعد لفظياً فحسب بل أصبح جسدياً أيضاً، كتصرّفات عدائية لدى بعض الطلاب تجاه زملائهم. وجاء البرنامج ثمرة مبادرة رئيس مؤسسة "أديان" السابق الأب فادي ضو، وتريشا برابو، الفائزين بجائزة ELEVATE PRIZE، بالتنسيق مع وحدة التربية، خصوصاً أنّ تريشا حائزة براءة اختراع لتطبيق RETHINK وهو تطبيق يرصد الكلمات السيئة التي تحمل معنىً خشناً أو بشعاً، ويصدر رسالة إلى صاحب الهاتف، pop up notification، مكتوباً فيها rethink كأن يسأله هل قصد فعلاً ما كتب في رسالته، ويذكّره بحجم الكلام السيئ ومدى بشاعته وخطورته على المتلقّي. وتبيّن بحسب التطبيق أنّ 74% من المراهقين يحذفون ما كتبوه بعد قراءتهم هذه الرسالة، لكون عقولهم غير مكتملة (فالوعي والاكتمال الفكري لدى الانسان لا يتمّان قبل الـ25 عاماً) ويقوم بردّات فعل سريعة. وصممت تريشا بهذا التطبيق بسبب ما تعرضت له صديقتها كانت في الرابعة عشرة من تنمّر في الصف، وأدّى ذلك إلى انتحارها، وتريشا تحاول عبر هذا التطبيق الحدّ من هذه الظاهرة التي أودت بحياة صديقتها".  

التنسيق مع المدارس 

وعن وجود تعاون مع وزارة التربية في هذا الإطار، قالت "أعلمنا وزارة التربية بهذا البرنامج لكن ليس هناك تعاون مباشر معها في هذا البرنامج على نحو الخصوص، إلّا أنّ هناك برامج أخرى تربوية تمّ التعاون من خلالها مع الوزارة. ونحن في مؤسّسة "أديان" لم نكتف بتطبيق rethink بل طوّرنا برنامجاً تربوياً من 10 وحدات تعليمية، تناقش مواضيع عدة مثل من أنا أونلاين؟ الهوية الرقمية، حقوق الإنسان، فهم المشاعر والحاجات، كيف نواجه التنمّر؟ مصادر الثقة وتقوية المناعة وغيرها من المواضيع، لذلك فإن التطبيق بمفرده غير كاف بل يجب أن يترافق مع هذه الوحدات التعلمية، المطوّرة حتّى الصفّ السادس. وعدد المدارس التي شاركت في هذا البرنامج نحو 20 في بضع مناطق". 

رفض التنوع 

وأضافت رحمة "غالباً ما تنطلق جذور التنمّر من نظرة الأفراد إلى التنوّع، فمعظم أسباب التنمّر تأتي من رفض الآخر بجميع اختلافاته الشكلية، أو الفكرية أو الدينية، أو الثقافية. فعندما يكون الفرد رافضاً للآخر الذي لا يشبهه يتنمّر عليه. كما هناك أسباب أخرى كوجود الأطفال فترة طويلة على مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا ما يلد صورة غير واقعية في أذهانهم عن البشر والحياة، فيجعلهم ذلك يبحثون عن هذه المثاليات غير الواقعية في الآخر. أمّا السبب الثالث للتنمّر فيعود إلى الثقافة والتربية وضعف المناهج التربوية في المدارس، والتي لا تنمّي حسّ الوعي لدى الأفراد على احترام الآخر وتقبّل التنوع".  

ما هو التنمر؟ 


يصف الدكتور انطوان الشرتوني، وهو مُتخصّص بالأمراض النفسية والتحليل النفسي، والتنمّر، في حديثه إلى "الصفا نيوز" بأنّه "شكل من أشكال الإساءة الجسدية والنفسية يمارسها شخص أو مجموعة أشخاص تجاه فرد أو مجموعة أفراد، عادةً أضعف منهم على الصعيد الجسدي أو الاجتماعي أو أقلّ منهم قوّة. الشخص المتنمّر يمكن أن يختلف مع شخص أقلّ منه رتبة اجتماعياً أو أصغر منه سناً أو حجماً، وهذا موجود بكثرة في المدارس بين الأطفال. والتنمّر هو فعل يكرّره بانتظام الشخص تجاه الفرد نفسه، ويمكن أن يأخذ الأشكال الآتية: 

• الاعتداء البدني، أي الضرب والصفع والركل...
• الإكراه والتلاعب بمشاعر الآخر بشكل ظاهر ويأخذ منحىً استهزائياً.
• التهديد والتخويف.
• الاعتداء اللفظي، أي استعمال الكلمات المؤذية تجاه الشخص الآخر.
وغيرها من الأشكال التي تؤثّر جميعها تأثيراً مباشراً في النموّ العقلي والنفسي للضحية". 

أسباب التنمر

أمّا أسباب التنمّر فكثيرة، بحسب الشرتوني، ويمكن حصرها بالنقاط الآتية:

أولاً، شخصية المتنمّر تكون استبدادية، أي تحتاج دائماً للسيطرة على الآخرين والهيمنة والتسلّط. وتُظهر دراسات نفسية أنّ الشخص المتنمّر يعاني اضطراباً في الشخصية.

ثانياً، نقص في تقدير الذات، يمكن أن يكون سبباً للتنمّر فيضغط المتنمّر على الآخرين لإخفاء شعوره بالقلق والخوف بسبب عدم تقديره لنفسه. لذا نجد بعض المتنمّرين منغلقين على أنفسهم ولديهم الكثير من المشكلات الفردية.

ثالثاً، الاكتئاب والمشكلات العائلية، والقلق المفرَط، يمكن أن تكون أسباباً مباشرة للتنمّر.

رابعاً، لا يمكن أن نتغاضى عن فكرة التقليد. فثمّة أشخاص يقلّدون الآخرين للحصول على القوّة والشعور بالعظمة. 

أساليب التنمر في المدرسة 


ويؤذي المتنمّر تلامذة صفّه أو الصفوف الأخرى لفظياً وجسدياً على السواء، يتابع الشرتوني، "وتؤكّد الدراسات النفسيّة أنّ المتنمّرين أنفسهم كانوا ضحيّة التنمّر في منازلهم ربّما من قبل بالغين، لذا يستعملون هذه الطريقة للشعور بالقوة. وفي المدارس يأخذ التنمّر شكلَ مجموعة من التلامذة ضد تلميذ آخر. فتقوم تلك المجموعة بتخويف التلميذ ثم تنتقل إلى الاعتداء الجسدي عليه. ويتقن التلميذ المتنمّر جيداً اختيار ضحيّته التي تكون عادةً منغلقة على نفسها ولا تختلط بباقي التلامذة، لذا تكون مواجهة الضحية (عصابة) المتنمّرين فردية وليست جماعية (فريق ضد فريق آخر)".

ويلفت الشرتوني إلى أنّه "يشارك بعض الأطفال بالتنمّر للشعور بالانتماء، فيقبلون ضرب صديق لهم في المدرسة بهدف الانتماء إلى مجموعة قوية. عادةً، يعاني هؤلاء التلامذة من الرفض الاجتماعي والخوف من الآخرين، لذا يجدون في التنمّر قوةً وسلطةً وأداةً لتخويف الآخرين منهم".

علاج التنمر 

وعن كيفية مساعدة التلامذة للابتعاد عن هذه العادة المؤذية، أجاب الشرتوني "دور الأهل والمدرسة أساسي في مساعدة الطفل الذي يُمارَس عليه التنمّر، وذلك من خلال النقاط الآتية:

• النظر إلى الذات نظرة استحسان واحترام. ويجب ألا يفقد الأهل الأمل من ابنهم، بل تعليمه تقنيات الاسترخاء وقبول الذات ومنحه الحنان والحبّ.

• دور المدرسة هو مساعدة جميع التلامذة للاندماج من خلال النشاطات الاجتماعية والألعاب الرياضية... أي على المربّين في المدرسة تشجيع جميع التلامذة على المشاركة في النشاطات اليومية والانسجام التام.

• تعليم الطفل مواجهة المشكلات التي يمكن أن تعترضه في المدرسة، والمواجهة لا تكون جسدية بل لفظية. وطبعاً يمكن طلب مساعدة المربّي أو الاختصاصي النفسي إذا لم يستطع التلميذ حلّ مشكلته. 

وعن دور الأهل والمدرسة تجاه الطفل المُتنمِّر، يقول الشرتوني "أولاً، يجب أن يكون الأهلُ والمربّون قدوةً صالحة. فجميع الأطفال يقلّدون البالغين، وتالياً ربّما يقلّد الطفل المتنمّر مثاله الأعلى: الأب أو المربّي في المدرسة. ثانياً، مساعدة الطفل المتنمّر بحثّه على التحدّث عن مشاكله. هذه طريقة فعّالة للتقليل من خوفه ومن ثم السيطرة على تصرفاته العدائية تجاه الآخرين. ثالثاً، منح الطفل المتنمّر العطف والحنان، وعدم مقابلة تصرّفاته غير المقبولة بالهروب منه وتحاشيه أو الصراخ عليه طوال الوقت، فذلك لن يساعده أبداً في معالجة التنمّر. رابعاً، طلب مساعدة الاختصاصي النفسي المدرسي، إذا استمر الوضع على حاله. فدور الاختصاصي النفسي هو كسر حاجز الصمت للتدخّل في عالم الطفل المتنمّر الذي يعاني من تصرفاته غير المقبولة".